العلم بين الحقيقة والنمذجة

العلم بين الحقيقة والنمذجة

مدخل إشكالي:

* في راهنية المسألة:

يبدو أنّه "لم يعد بالإمكان أن نفكّر بعد إينشتاين مثلما كنّا نفكّر قبله". فلقد انتهى الأمر بالعلم في ظلّ التطوّرات التي شهدها انطلاقا من بداية القرن العشرين، بالإضافة إلى ظهور مباحث علمية جديدة (الألسنية، علوم التربية، علوم الاتّصال، المعلوماتية، السيبارنيطيقا) إلى الانثناء على ذاته ومراجعة جملة أسسه ومبادئه ومعتقداته، حيث لم يعد بإمكان منظومة المفاهيم السائدة استيعاب ما تطرحه التطوّرات العلمية من إشكاليات. وقد كان لذلك الأثر المباشر في طرح عديد القضايا ذات الصبغة الأبستمولوجية والفلسفية والمتّصلة بطبيعة المعرفة العلمية.
ولعل أهم ما أفضت إليه هذه المراجعة ظهور مصطلح النمذجة التي تعبر عن وصف لمسار اشتغال العلم وكيفية بناءه أو إنتاجه، لذلك يبدو ضروريا أن نولي مسألة النمذجة وإنشاء النماذج ما تستحقه من عناية قد تسمح لنا ببيان كيف؟ ولماذا؟ ومن أجل من؟ تبنى وتتصور وترسم أو تكتب النماذج العلمية؟ كما يعد من الضروري أن نتبين مشروعية النماذج التي تبنى وتطبق للتفكير في الواقع بما فيه من ظواهر وسلوكيات.
فإذا سلّمنا مع بول فاليري بأننا "لا نفكر إلا على أساس النماذج" [nous ne raisonnons que sur des modèles]، وجب أن نفهم كيف تبنى النماذج، وأي منزلة إبستيمولوجية للنمذجة في الثقافة العلمية، وأي قيمة فلسفية للنمذجة؟ أو ما الذي تقتضيه من مهام في علاقة برجل المنطق والإبستيمولوجي والفيلسوف؟ ولعل الصعوبة التي تعترضنا في هذا المقام تكمن في أن اهتمام الثقافة العلمية بالنموذج معاصر، ففي مستوى البحث العلمي يبدو النموذج بما هو وسيلة أو أداة إنتاج وعرض المعرفة مفهوما حدثا، كما يبدو مفهوم النمذجة مستحدثا بحيث لا نعثر في المعاجم المتداولة على تعريف للنموذج وفق ما يفهم في معالجة الظواهر التي تعتبر مركبة، بل لعل حضور فكرة النموذج في التقليد الفكري وتعدد مجال فهمه واستخدامه ما يؤكد هذه الصعوبة نظرا لإمكان الخلط بين دلالة النموذج علميا ودلالته في التقليد النظري، لكن هذه الصعوبة لا ينبغي أن تحول دوننا والتفكير في المسألة إذ غدا النموذج كما النمذجة الكلمة المفتاح على ما يبدو في لغة العلم والعلماء والمهتمين بالشأن العلمي، وهو ما يؤكد راهنية مسألة النمذجة وما يضفي مشروعية على تناولها بغاية بيان منزلة النموذج والنمذجة في الفكر العلمي المعاصر من جهة إبستيمولوجية وفلسفية.

*الإشكالات النظرية التي تثيرها مسألة النمذجة:

- إنّ النمذجة كما النموذج مصطلحات حديثة في مقاربة العلم وهو ما يجعلها مسألة ملتبسة تحتاج الكثير من النظر والدقة المفهومية خاصة في علاقتها بجملة من المفاهيم المجاورة على غرار البراديغم أو النموذج الإرشادي، أو مفهوم المثل الأعلى العلمي، أو مفهوم المثال الأفلاطوني...فما المقصود بالنمذجة وأي دلالة للنموذج وأي منزلة له في الفكر العلمي؟ هل يعد مجرد انعكاس لواقع معطى أم أنّه إنشاء لواقع لا يتحقق إلا بالقطع مع المعطى؟ هل تمثل النمذجة مجرد مسار أو منهج أو طريقة يتبعها العلماء في بحثهم ليكون بذلك وسيطا نفوض له وظيفة المعرفة أم أنّه مجرد إجراء لتجسيد المعرفة في صور أو رسوم أو بيانات فيزيائية كانت أو مجردة؟ أم أنّ النمذجة لا تعد طريقة علمية وإنّما طريقة تستعمل العلم؟ وإذا سلمنا بأن النمذجة هي السمة المميزة للعلم اليوم فأي علاقة لها بالمنهج التجريبي في دلالته الوضعية من ناحية وبالباراديغم الوضعي أو الخبري أو الواقعي من ناحية أخرى؟ هل يمكن النظر إلى النمذجة بما هي امتداد للعقلانية الكلاسيكية أم بما هي إعلان عن براديغم جديد مغاير في مبادئه ومعاييره ونتائجه؟ وإذا أخذنا بعين الاعتبار بنية النمذجة أو أبعادها التركيبية والدلالية والبراغماتية، فكيف نفهم العلاقة بين الجانب التركيبي الذي يحيل على الطابع الصوري للنموذج والجانب الدلالي الذي يحيل على علاقة النموذج بالواقع والتجربة والتوقع والتفسير؟ هل أن الواقع هو ما يمثل أساس إنتاج البنية التركيبية للنموذج ليكون الحدس هو منطلق هذا البناء أم أنّ البعد التركيبي يتشكل صوريا ثم يجد مجال انطباقه في الواقع؟ وأي دور ومعنى للتجربة حين يتعلق الأمر بالبعد الدلالي؟ هل تحافظ التجربة على دلالتها الكلاسيكية بما هي ملاحظة مجهزة ومجال إثبات النظرية أم بما هي تجربة افتراضية أو اصطناع يتم بوساطة الحساب الرقمي [الحاسوب] ؟ وأي علاقة بين النموذج والنظرية؟ هل يعد النموذج مجرد تجسيد للنظرية العلمية أم أن النموذج يتماهى مع النظرية؟ أم أن النموذج نظرية ذات بعد عملي؟ أم ينبغي النظر إلى هذه العلاقة جدليا بحيث لا ينتج العالم نموذجه إلا وفق تصور نظري ما قبلي وأنّ النموذج من شأنه أن يعدل النظرية أو يدفعها إلى مراجعة مبادئها ومسلماتها ومفاهيمها؟ ثم هل من معنى للموضوعية في النمذجة والحال أنّ علاقة الذات بالموضوع لم تعد "محايدة" على معنى الموضوعية الأنطولوجية، في مقابل الحديث عن علاقة تفاعلية بين الملاحظ وموضوعه، هي من جنس العلاقة الفينومونولوجية حيث لا يدعي المنمذج أنه يصف الواقع كما هو وإنما يصف الواقع كما يتمثله؟ وكيف نفهم علاقة النموذج في جانبه التركيبي والدلالي بالجانب البراغماتي؟ هل يفيد هذا الجانب بأن العلم قطع مع القطع مع الغائية؟ هل انتهى إلى إعلان علاقته بالغائية على وجه الملأ ليجعل زيجته بها شرعية حتى وإن لم تكن مشروعة، ليقطع بذلك مع علاقة سرية ارتبط بها بالغائية إذ على حدّ عبارة جاكوب كانت علاقة العلم بالغائية شبيهة بعلاقة رجل بامرأة يريدها ويعاشرها دون أن يريد لعشرته معها أن تظهر للعيان. وأي دافع لعودة الروح لمثل هذه العلاقة؟ أو لصالح من؟ هل أن مثل هذا التحول يهدف إلى تحقيق ضرب من المصالحة بين الواقع العلمي والواقع الإنساني تجاوزا للطابع الجاف والمجرد للعلم أم أنّه إعلان عن علاقة عضوية بين العلم ورأس المال تجعل من النجاعة بدل الحقيقة ومن التحكم بدل التفسير القيمة الأسمى للعلم؟ ألا يمكن وفق هذا القول أن نشكك في الطابع العلمي للنمذجة؟ ألا يمكن القول بأن النمذجة ليست مجال اشتغال العلماء وإنّما مجال اهتمام المهندسين ومكاتب الدراسات والخبراء ورؤساء الأموال حتّى إن اعترفنا باعتماد العلماء على النماذج لتوضيح نظرياتهم؟ وبالتالي ألا ينبغي النظر إلى النمذجة لا من جهة أنها مسار علمي حتمه التطور العلمي وطبيعة الظواهر المركبة وإنما من جهة أنها تدعي العلمية لتخفي طابعها الإيديولوجي وتضفي مشروعية على أفعالها؟

2 - دلالة النموذج والنمذجة:


يعرّف النموذج حسب فاليزار" بما هو كل تمثل لنسق واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا، يتم التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية" كما يعرّفه دوران بقوله" يشمل معنى النموذج في دلالته الأكثر اتساعا كل تمثل لنسق واقعي مهما كان شكل هذا التمثل". والنمذجة وفق هذا التحديد هي التمشي المنهجي الذي يفضي إلى إنتاج النموذج والذي يعني التمثل لكائن ما يوجد في الواقع ولكيفية اشتغاله، وتفترض النمذجة أنّ كلّ كائن هو بمثابة منظومة تشتغل على نحو ما، ليكون النموذج منزلا ضمن حقل الفكر النسقي وهو ما يعبر عنه فاليزار بقوله " لا ينفصل مفهوم النسق في الحقيقة عن مفهوم النموذج منظورا إليه كنسق تصوّري لنسق واقعي. وكل نسق واقعي لا يعرّف إلا بالعودة إلى نماذج تصورية (التصورات الذهنية أو التصورات الصورية) وعلى العكس من ذلك فإن كل نموذج يمكن اعتباره نسقا خصوصيا أيا كانت طبيعته فيزيائية (maquette) أو مجردة (ensemble de signes) "
يجد النموذج أصوله في التقنية، ويفيد الرسم الهندسي أو الموضوع المختزل في مثال مصغر أو في شكل تبسيطي والذي ينتج المشروع (الموضوع) ويعبر عنه، إذ يمكن أن يخص بعمليات حسابية أو اختبارات فيزيائية لا يمكن تطبيقها على الموضوع ذاته، لذلك اتخذ النموذج طابعا منهجيا، إذ يشير إلى كل الصور أو الإنتاجات التي تخدم أهداف المعرفة.
إنّ الوقوف على الدلالة الجديدة للنموذج تقتضي تمييزه عن دلالات تبدو مجاورة ولكنها مغايرة:
ينبغي أن يفهم إذن من كلمة نموذج وحدة معرفية أو إدراكية مستقلة تعبّر عن نفسها في شكل علاقات صورية بين مقادير. وانطلاقا من مجموع الفرضيات يسمح النموذج من استخلاص أو اشتقاق جملة من النتائج أو الاستتباعات في صورة نسقية (البعد التركيبي). أما من الناحية التجريبية فيكون للنموذج منزلة ابستيمولوجية هجينة، إذ لا يمكن النظر إليه بما هو نتاج نظري خالص، ولا أيضا بوصفه حصيلة ملاحظات. إنّه ينشئ أيضا حقلا من المفاهيم (موضوعا مفهوميا) مرنا قابلا لمسار متدرج للتعديل (البعد الدلالي). ومن الزاوية الإجرائية فإنّ للنموذج منزلة عملية أو تطبيقية أصيلة بما أنّه يضم عناصر وصفية وأخرى معيارية، تسمح له أن يكون فاعلا وناجعا وقادرا على تحقيق الغايات التي حكمت إنتاجه (البعد التداولي).
إذا اعتبرنا أن النمذجة هي بمثابة مسار إجرائي للمعرفة، وأن النموذج هو وسيط نفوض له وظيفة المعرفة، فإننا نكون إزاء دلالة جديدة للنموذج بما هو تمثيل للمعرفة، وهو ما يقتضي منا أن نبلور معنى النمذجة بما هي مسار يسمح بإنتاج النماذج بضبط خطواتها، فكيف ننمذج؟
يمكن تعريف النمذجة العلمية بما هي قدرة على إنتاج نماذج قوامها وعي الفكر العلمي بطبيعة نشاطه العرفاني بما هو صانع نماذج مرتبطة بسياق اجتماعي محدّد. كما تفيد جملة المراحل التي يمر بها الباحث لبناء نموذج ما انطلاقا من المنظومة الملاحظة والتي يمكن اختزالها في:
ـ رسم الحدود الدقيقة للنسق المزمع نمذجته.
ـ التعرف بدقة على عناصر النسق وتصنيفها بحسب خصائصها.
ـ اختيار لغة ما لتمثل هذه العناصر وكيفية تفاعلها (لغة أدبية، إيكونوغرافية أو منطقية/ رياضية).
ـ اختبار النموذج بتشغيله افتراضيا لتعديله عند الاقتضاء.
ـ ضبط الأهداف التي يرجى تحقيقها من إنشاء النموذج في علاقة بسياق ما.
ـ يمكن للباحث في الأخير إمّا تعميم هذا النموذج على أكثر من منظومة أو أن يبني منظومة أكثر تجريدا بواسطة الاستقراء وهو ما يعني أنّ النمذجة مشروع مفتوح.

الدرس الأول: أبعاد النمذجة:

أ‌-     البعد التركيبي:

يبدو أن النمذجة كممارسة علمية تتقدم كحل لمجموعة من الصعوبات التي اعترضت العلماء في تفسيرهم للظواهر، صعوبات تتعلق بأزمة أسس الرياضيات، أزمة الحتمية في الفيزياء، فهذه الصعوبات أدّت إلى انهيار اليقين العلمي وتفكيك العقل العلمي، بالإضافة إلى الوعي بالطابع المركب للظواهر والذي رافق ظهور علوم جديدة، علوم تطبيقية كالسيبارنيتيقا وعلوم الهندسة والإعلامية، كلّ هذه العوامل أدت إلى ظهور النمذجة باعتبارها الحلّ لاستعادة ضرب من الثقة في العلم الذي برهن على قصوره على تناول الظواهر اللامتناهية في التركيب وفق البراديغم الكلاسيكي الوضعي الذي تمثل في النمذجة التحليلية.
والنمذجة كحلّ لدراسة اللامتناهي في التركيب تتقدم هي ذاتها كمنهج مركب، منهج فيه أبعاد مختلفة وكل بعد يتضمن عناصر مختلفة وعموما تقوم النمذجة على الدراسة النسقية للتوافق بين أبعاد ثلاثة:
      البعد التركيبي: يشمل كل ما يتعلق بالعناصر الأولية كالأرقام والرموز وقواعد تنظيم هذه الرموز في علاقات بالإضافة إلى الصيغ والقضايا.
     البعد الدلالي: يشمل كل مضامين القواعد وما يعطي معنى للنسق وبالتالي مختلف التأويلات.
     البعد التداولي: يتحرّك ضمن مسار إدماجي للمعرفة والممارسة ويتعلق بالتعديلات التي تجرى على النسق ووظائف النماذج المختلفة بالإضافة إلى التمثيلات التي ينتجها النموذج.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الفصل بين هذه الأبعاد الثلاث ليس إلا فصلا إجرائيا يرتبط بديدكتيك التعليم، ذلك أن هذه الأبعاد الثلاثة تتداخل فيما بينها وتمثل بنية على المنظّم أن يأخذها في كلّيتها بما هي تعبير على نموذج واحد يتحدد هو ذاته كبنية.
ومن هذا المنطلق يحدد "بياجي" J. Piaget البنية باعتبارها الشكل المُلاحَظ والقابل للتحليل الذي تتخذه عناصر موضوع مادي، فهي الطريقة التي يتقدم وفقها مجموع محسوس في الفضاء. يتعلق الأمر إذن بالأجزاء وتنظيم هذه الأجزاء، فالبنية هي كلّ يتكون من عناصر ومن شبكة علائقية بين هذه العناصر تتعلق بالتكوّن أو البناء والسياق وتموضع العناصر وشكلها. لذلك ينسب "بياجي" للبنية ثلاث خصائص، الخاصية الأولى تتعلق بالكلية من جهة كون البنية كلّ، والخاصية الثانية تتمثل في التحول من جهة كون البنية لها طابع ديناميكي، والخاصية الثالثة هي الانتظام الذاتي من جهة كون البنية تشتغل بطريقة مستقلة عن المنظر. وهذا يعني أن المنظر لا يتدخل فعليا في البنية. ولكن رغم كون البنية مستقلة على عمل المنظر فإنها تساعده على الصورنة كلحظة أساسية في انتاج النموذج. ذلك أن الصورنة هي العملية المعرفية التي تحوّل بمقتضاها فعل أيّ نسق عيني إلى صورة أي نسق مجرّد والعملية المعاكسة أي التحوّل من النسق المجرّد إلى النسق العيني تتمثل في التأويل.
ويلاحظ "لادريار" J. Ladriere أن الأنساق العينية والأنساق المجرّدة تمثل نظما رمزية بما هي اصطناع عقلاني يشتمل على أشكال يمكن أن تـُستخدم في صياغة تمثلات لأيّ وسطٍ يسعى نظام الرموز إلى التلاؤم معه، إذ يسمح له بنمذجة هذا الوسط وعقلنته. والصورية هي نظام رمزي من القواعد التي تمكّن من التحول من التجارب إلى المعارف، وهو ما يعني أن الصورية هي كل نظام علامات ناتج عن الصورنة. لكن لا يجب أن نفهم من ذلك اختزال الصورنة في الترييض وبالتالي اختزال الصورية في الأنساق المنطقية الصورية، ذلك أن الصورنة تحضر بشكل متفاوت في النمذجة إذ يمكن أن تتخذ شكلا أكسيوميا صرفا إذا كان الموضوع المنمذج قابل للمقاربة الكمية الصرفة، كما يمكن أن تتخذ شكلا شبه أكسيومي إذا كان الموضوع لا يخلو من أبعاد كيفية نوعية. خاصة وأن الترييض في النمذجة التحليلية يحضر بشكلين مختلفين، إمّا في شكل استخدام الرياضيات كأداة من خارج العلم لصياغة القوانين وإما باستخدام المنهج الرياضي ذاته أي المنهج الفرضي الاستنتاجي، وهو ما يعني أن العلم الحديث هو ابن الرياضيات كما بين ذلك هنري برقسون H.Bergson وأيضا ألكسندر الكويري A.Koyré عندما حلل الثورة العلمية الحديثة وأعلن أن ولادة العلم الحديث حصلت عبر القطع مع التفسير النوعي الأرسطي و تعويضه بتفسير كمي، أي أن النشاط العلمي يتمثل في مجهود تعويض المعرفة النوعية بالحواس والإحساس بمعرفة كمية قابلة للقياس. وإذا كان الوصف النوعي يكتفي بوصف المظهر الفيزيائي، بحيث يكتفي مثلا بوصف المنحى فإن الوصف الكمّي يحلّل المعادلة الرياضية التي تدبّر المنحى، ذلك أن النوعية تشير إلى ما لا نستطيع التعبير عنه بلغة كمية ولا حتى بعلاقات عقلية محدّدة، فالظاهرة النوعية ترتبط بالمظاهر الحسية للإدراك التي لا تتعلق بتحديدات ميكانيكية وهندسية وإنما تدرك بحدس شامل وعلى شأن ذلك بالذات أقصاها العلم من دائرة اهتمامه.
ويبدو أن إقصاء الجانب النوعي من العلم ضيق مجال المعرفة العلمية ومثل أحد الصعوبات التي أظهرت نقائص العلم الحديث أو ما يسمّيه "لوموانيو" بالنمذجة التحليلية، وهذا يعني أن مزية النمذجة النسقية تتمثل في تجاوز التضييق الكبير لمجال امتداد العلم باسم الترييض والتكميم كشرط ضروري للمعرفة العلمية ويكون ذلك عبر توسيع دائرة العلم لتشمل مالا يمكن الحديث عنه في لغة كمية رياضية صرفة. لذلك فإن الصورنة رغم كونها لا تـُختزل في الترييض تقتضي أوّلا الصرامة العقلية التي لا يجب فهمها مثلما بين ذلك "هيربارت سيمون" H. Simon باعتبارها مشابها للنموذج الذي يستعمل الرياضيات التقليدية في النمذجة التحليلية، فالصّرامة تُؤخذ هنا على انتساب التمشي الفكري لنسق أوّليات لذلك فإن الهدف الأساسي لكلّ صورنة يجب أن يكون إبانة الأوّليات أو القواعد المتواضع عليها والتي تقود كلّ عملية نمذجة، والصرامة العقلية كشرط للصورنة تجنّب النمذجة النسقية ظنّة الإبستيمولوجيا الوضعية.
كما تقتضي الصورنة خاصية إمكان الصنع إذ يجب أن تكون عملية قابلة للتحقيق واقعيا وكونيا، وبهذا المعنى فإن النمذجة النسقية تمكننا من صورنة ما كان غير قابل للصورنة في النمذجة التحليلية وذلك في شكل توثيقي لمعارف رمزية تتعلق بتجارب مدركة أو قابلة للإدراك بإنتاج علاقات عقلية محدّدة من قبل فاعل منمذج لفعله الخاص. وهذا النوع من التمثل للظواهر لا يدّعي أنه يقدّم الوصف التام للظاهرة المدروسة إذ أنه تمثل اصطناعي وتليولوجي Téliologique، بما أن هذا البعد الغائي يمكّن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد، و تمثل مركب ومع ذلك قابل للتعقل مما يعني أن التمثل الذي تقدمه النمذجة النسقية لا يدّعي فصل الصورنة على التأويل، ذلك أن النموذج ينشأ بفعل عملية تبسيط متعمّد، وهو تبسيط لأنه يختار بعض مظاهر الواقع المدروس ويهمل أخرى، ومتعمّد لأن المنمذج يعلم مسبقا أن النموذج الذي ينتجه لا يدّعي مطابقة الواقع المدروس في كلّ الظروف وفي كلّ جوانبه، إذ لا يجب أن ننسى أن النموذج هو قبل كل شيء إنشاء فكري فالنموذج هو نظام علامات ليّن يمكّن من اعتبار أغلب الادراكات التي بحوزتنا عندما نريد وصف ظاهرة ملاحظة أو متخيلة بُغية تأويلها ذهنيا. ومن هذا المنطلق فإن النمذجة تفتح مجالات واسعة أمام البحوث العلمية دون أن تلزم التمثل بلغة مغلقة إذ يمكن التعبير عن النموذج كتمثل لظاهرة ما في لغة خطابية أدبية أو في تصاميم أو في رسوم بيانية بالإضافة إلى اللغة الرياضية ومن هذا المنطلق يمكن أن نميّز بين نوعين من النماذج:
      نماذج مادية: تترجم نسقا معينا من الظواهر العينية التي يغلب عليها الطابع النوعي بما أنّ بعض الخصائص المادية كالأشكال والألوان والروائح... يصعب التعبير عنها في صورة مجرّدة.
     نماذج رمزية: تترجم النسق في لغة مجرّدة ويجب أن نلاحظ أن هناك أيضا بعض الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها.
ولكن هذا التصنيف لا يعني القطيعة بين نوعيْ النماذج إذ يجري المرور تدريجيا من النموذج الرمزي إلى التصميم ومن التصميم إلى النموذج الرمزي فكلّ نموذج رمزي يحافظ على سند مادّي، وكل تصميم لا يخلو من قدر من التجريد برغم غياب التوافق الكلي بين النموذج المادي والنموذج الرمزي بما أنّ بعض الخصائص المادية يصعب التعبير عنها في أشكال مجرّدة وبعض الخصائص المجرّد يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها مثلما أسلفنا الذكر. والمرور من المادي إلى الرمزي أو إن شأنا من المحسوس إلى المعقول ومن الرمزي إلى المادي، أو من المعقول إلى المحسوس هو ما يعبّر عنه "سيمون" بقوله: "لقد نقلت الحواسيب نـُظـُمَ الرموز من الجنة الأفلاطونية للمثُل إلى عالم خبري للسيرورات الواقعية المتحققة عن طريق آلات وعن طريق هذه الأدمغة أو بالاثنين يعملان معا"، ذلك أن الذكاء الاصطناعي يمثل آلية تسهل على المنمذج المرور من الصورية المجرّدة للتمثل الذهني إلى تحسيس وتلميس هذا التمثل افتراضيا بواسطة الحاسوب الذي يسمح بإيجاد مقابل مادي يماثل الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في الواقع الفعلي.
وهكذا فإن إنتاج النماذج يتقدم في شكل اكسيومي أو شبه اكسيومي بحسب درجة الصورنة، وهذا يعني أن الأكسيومية، كضرب من العرض للعلوم الصحيحة مبني على قضايا افتراضية يسلّم بها تسليما دون برهان وهي القضايا التي تُسمّى الأوّليات التي تكون مصاغة بدقة وتؤدي إلى استدلالات صارمة، هي إذن ما يمكن الصورنة من تحقيق شرط الصرامة الذي تقتضيه، ذلك أنّ الأكسيومية تبدأ بجرد كامل الأوليات أي كلّ القضايا التي نسلّم بها دون برهان، واكتشاف هندسات لا إقليدية في القرن 19 يبين لنا خاصية التجريد والاعتباط للأكسيومية كما بين لنا أن هناك رابط هام بين الأكسمة والصورنة، فالأكسمة تمكن المنمذج من بناء أنساق متكاملة من المفاهيم والعلاقات مما جعل "باشلار" يعتبر أن القطيعة الابستيمولوجية بين التجربة المحضة والأكسمة تمرّ عبر لعبة صورية.
والنمذجة كممارسة علمية موحّدة للنشاط العلمي بما تسمح به من تعاون بين مختلف الاختصاصات العلمية وباستخدامها للعلوم الإعلامية مكنت العلم من إطار جديد للتجريب الافتراضي Experimentation Virtuelle كما مكنته من استخدام لغة اصطناعية مفتوحة تخضع عناصرها للظواهر المنطقية في بناء أكسيومي أو شبه أكسيومي بحسب درجة حضور الرياضيات ذلك أن طبيعة اللغة المستعملة هي التي تحدّد درجة الصورنة.
وهكذا يمكن القول إن مقاربة البعد التركيبي للنمذجة توضّح لنا الشروط الابستيمولوجية لتأويج فعالية النموذج وتأويج امكانية اشتغاله وبالتالي تمكننا من التحكم في المصاريف وتأمين مقاربة الظاهرة المدروسة وهذه الشروط يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:
     التماسك Consistance: بمعنى أن يكون النموذج خال من كلّ تناقض وهو شرط تجعله الأكسمة ممكنا.
     التمامُ Complétude: بمعنى ألا يتضمّن النموذج قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض.
     الثبات: بمعنى أن تكون قضاياه ملائمة لكل المتغيرات الممكنة.
     الاشباع Saturation: بمعنى ألا يحتاج النموذج إلى استخدام مصادرات إضافية من خارج النسق.
      القطعية Décidabilité: بمعنى تضمّن النموذج لإجراءات تسمح بالحكم على قضية ما بكونها صحيحة أو خاطئة.
      الاستقلالية Indépendance: بمعنى ألاّ يتضمّن النموذج أوّلية يمكن استنباطها من بقية الأوّليات.
لكن إذا كانت النمذجة تهدف أساس من جهة طابعها التليولوجي إلى اصطناع استراتيجيا للفعل، وإذا كان النموذج ليس تركيبا لأشياء ثابتة وإنما هو تركيب تمثلات فعل تمكن من تقييم نوايا الفعل الممكنة وبالتالي تحديد قواعد الفعل فماذا يمكن أن نقول عن علاقة هذا النموذج المبتكر بالواقع؟ هل يمكن أن نتحدّث عن الواقع بطريقة موضوعية؟ وهل تسمح لنا النمذجة النسقية بالقبضة على الواقع؟

ب‌-                      البعد الدلالي:

يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم": «إن الواقع لا دلالة له في ذاته. وفي مقابل ذلك من المهم أن نتبين أن الواقع له دلالة وله معنى أيضا». ذلك أن الإنسان في حاجة إلى تمثل الواقع ليضفي عليه دلالة وحتى يصبح معقولا بالنسبة إليه. والبعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، وإنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبر عنه هذه الرموز والعلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع.
هذا يعني أن الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلا بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجردة وترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أن النسق الصوري يعبر عن بنية واقعية، ولذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس وبين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. وهذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد وكلّ ما يتعلق بهذه القواعد يشكل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيا وبالتالي فإن البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثله وباعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة.
إن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر والأهمية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. والنموذج هو وليد ثلاث سيرورات، متنافرة ومتكاملة، فمن جهة كل ما ندركه ونتصوره يمر بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وافق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلقة بالاختصاصات والمشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة، وبالتشابه والتنافر بين النماذج، تحدد السيرورات المنمذجة. ويمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ذلك أن النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسط ومماثل لخصائص الأشياء، والمثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل وحركة القمر حول الشمس. ولأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإن الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي.
أما في النمذجة النسقية فإن وظائف التحويل الرمزية تتأسس في ذات الوقت تركيبيا ودلاليا، وتختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبع آلة طائرة في الفضاء إلا بواسطة وظيفته التحويلية التي تتضمن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي والخبري في كلّ عملية صورنة. وبلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوعا من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني والحكم الخبري. ولكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلق بعلاقتهما الضيقة بالصورية المنطقية. وهذا التشنج يحيل في النهاية إلى ما يسميه J.L. Le Moigne "الأفق المورفولوجي". وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية وأخرى كيميائية بين الذرات، وبالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية والوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، والخاصية التأليفية للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصور مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية.
النمذجة تتمثل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أما التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثل طبيعي مرمز إلى تمثل ذهني، وهذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أن النموذج مهما كان، يمثل في لحظة قراءته حامل معنى للبناء، حامل معرفة للاكتساب. والنموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، والتعميم كخاصية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتى نتحول من نموذج ذي صلاحية تتعلق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدود من الوضعيات الممكنة التي تؤكد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أن النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقية، لذلك يمكن القول مع فاليزار B. Walisser: «يمكن اعتبار كل نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثل تأويلا له وحقل تجريبي يمثل تأليفا له.» وبما أن كل بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P. Gréco بأن «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون وفهم معنى القانون» خاصة وأن القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها والتي تؤسس مواصفات التعرف على المواضيع ونمذجتها. ثم إن وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة ولكن أيضا وصف حالة فعلها. أما الفهم فهو شرط أولى ضروري للوصف ولا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشراتية والجانب المحسوس من التمثل التماثلي مثلما بين ذلك E. Morin. ومن هذا المنطلق فإن تأليفية الفهم تحضر في التحليل وفي نسقية الوصف. وبالتالي يمثل الفهم وسيلة وغاية كل تماثلية.
ثم إن النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركبة والمعقدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقل عبر نمذجته دون إفراغه مما هو أصيل فيه: التركيب والتعقد. ذلك أن النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركب أي الصيرورة في الاشتغال والاشتغال الصائر. إذ تمكن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره وتمكنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتةstables، بل هو تركيب تمثلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع.
وأن نتحدث عن الواقع هو أن نتحدث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاصة حتى نتمكن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده وتركيبه وفي غموضه، أن نتحدث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكر في الشيء خارج الوهم والظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال ومع تمثل الواقع، فالواقع هو ما يوجد والمعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز والكلمات والأعداد. ويزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخل الذاتية. ولكن بقدر ما يكون الموضوع معقدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أن المقاربة تتبع ما سبق وترتبط بالظروف الخاصة للبحث.
لذلك فإن النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقدة (مركبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي ومغلق، بل لا يوجد واقع وإنما وقائع متعددة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدة حقائق. والواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدة نماذج يمكن تصورها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها وفي التفاعلات الداخلية التي تكونها. والمنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا وبطريقة حرة. وهذا التدخل من قبل المنمذج والنموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، وتدخله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغير المنمذج العالم الذي يعرفه، وعندما يغير هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطور هو ذاته. ولذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي.
إن المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها ويمكن استعمالها في الفكر والممارسة. ويتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج والنموذج. ويتمظهر بجلاء في ذاتيته وبقيمه الخاصة. إذ تفترض النسقية أن فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. وهذا يعني أن مثالي النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية ولكن في اسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبر عن مقاصده وأن يعرضها قبل أن يقدم النموذج الذي تخيله بكل حرية. وحق الخيال، هذه الحرية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible وهذا يعني أن الذاتية علنية في النمذجة النسقية، والواقع يتم استنتاجه من مقدمات توضع قبليا بالتجارب والمعارف. وبالتالي فإن النمذجة تفتح المجال للإسقاط والإبداع والمنمذج ينغمس في الوسط ويتخيل مشاريع الظواهر التي يدرسها.
النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كليته وإنما يعكس الواقع كما تمثله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق وإنما هي علاقة تفاعلية تتحدد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، وثريّا قابلا للتحول من كونه نموذجا خاصا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق وبالتالي عام، وتتحدد صلاحيته التجريبية إما بتجارب قياسية عبر التمثل الاصطناعي في الواقع الافتراضي وإما بتجربته في الواقع الفعلي.

ج-  البعد التداولي:

لنذكر بأن النمذجة النسقية ليست إلا منهج تمثل إجرائي له غايات عملية، منهجا ينطلق من مسلمة تقر بعدم إمكان إنتاج معرفة كاملة وأن هذه التمثلات التي تنتجها النمذجة لا يمكن أن نقول عنها أنها صادقة أو كاذبة بل هي فقط تمثلات ناجعة للفعل المستقبلي بما أنها تمكن من تحقيق ضرب من التوقع وإلا لما كانت هذه التمثلات ناجعة. وهذا يعني أن ضروب تطور الأنساق المركبة تقطع مع النموذج الميكانيكي للنمذجة التحليلية، ذلك أن النموذج الميكانيكي يتحرك في مستوى حتمي في حين أن الأنساق المركبة تتحرك في مستوى لا حتمي.
         فمنذ الثورة العلمية الثانية التي حققها اينشتاين في الفيزياء، نحن نعلم جيدا أن الواقع التجريبي يعبر عن تسلسل خفي للظواهر المواضيع مرتبط بالفضاء-زمان L'espace-temps، ولكن هذه الظواهر تبدو مستقلة عن بعضها في بناء لغات الوصف في أفق مصورن، ذلك أن المنطق الصوري في شكله الرياضي مؤسس على مبدأ الحتمية الذي يقرّ بأن حالة الظاهرة في الزمن "ز" المعطى، تحدّد حالة الظاهرة في الزمن "ز + 1" وهذا المبدأ هو ذاته شكل مهذب للحتمية باعتبارها قانون سببي والذي يقرّ أسبقية السبب على النتيجة.
ولكن يجب أن نلاحظ أننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على الضغوطات الفيزيائية، وربما حتى الكسموفيزيائية لمعالجة جيدة لضغوطات علوم التصور. فاكتشاف الكون في علوم التصور يقتضي تصوّر سببية خطية ومتعددة في ذات الوقت بالشكل الذي يجعل ممكنا تصور عدّة أسباب: التدبير، الاضطرابات التي تصدر عن المحيط، الضغوطات المختلفة، التعديلات... لتحديد حالات مرتبطة بالحالات المراد تحقيقها، وذلك للتقليل من الفوارق بين هذه الحالات، وبناء رابط بين المنطقي والخبري أي بين المبررات القبلية بما هي «المماثلة المؤسسة علميا بين الوضعية الطبيعية والنموذج»، والمبررات البعدية بما هي «المجابهة التجريبية»، كما يعبر عن ذلك روني طوم R. Thom. وهكذا فإن تعدّد الأسباب في اشتغال نسق آلي يولّد أيضا نتائج ارتجاعية تساهم في فعالية النسق. والتكامل بين ما يتعلق بالمستوى القانوني التركيبي وما يتعلق بديناميكية قرينة (Contexte) المعرفة والفعل للوظيفة الدلالية، يساهم هنا في وظيفة التحويل الموحّدة للتجريد وفكّ شفرة التجريد. والفوارق بين المعطيات الخبرية والمعطيات المنطقية الصورية تحيل بالتناسب إلى تأويلات مختلفة للسيرورات التماثلية (المُحتوَى) وإلى تأويلات ترتبط بالمنطق الصوري (المحتوِي). ومن هذا المنطلق فإن التشنج، لاستعارة عبارة E. Morin، بين المُحتوَى / المحتوِي الذي يسعى إلى إظهاره الحكم ألتأليفي الذي يقارب كلّ ما نستطيع تمثله بطريقة مباشرة، وما يظهره الحكم التحليلي يتضمن تثبت وإمكانية دحض، صرامة، كمال، ومراقبة...
وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب لشروط العلمية، ومن هذا المنطلق فان النموذج باعتباره تمثل مجرّد للواقع من جهة كونه يبسط هذا الواقع لفعل معيّن فيه ولا يبقى إلا على الخصائص الهامة بالنسبة إلى السياق الذي تتحرك فيه غاية الفعل، يجعل من النموذج نظرة ذاتية حول الواقع تمكّن من تمثيل اصطناعي للنسق المدروس. ذلك أن تقنيات ما يسمى بالواقع الافتراضي «réalité virtuelle» تمكّن المنمذج من الولوج والفعل والتفاعل في عالم التأليف الذي يكوّنه الحاسوب، لأن مفهوم الواقع الافتراضي يتضمّن ثلاثة معاني:
- الانغماس «Immersion»
- التفاعل «Interaction»
- الإبحار «Navigation»
والانغماس يعني أنّ الفرد ينغمس كليا في الصورة بواسطة خوذة تسترجع رؤية مجسادية Vision stéréoscopique, أي صورة ثلاثية الأبعاد. أمّا التفاعل فانّه يعبّر على قدرة اصطناع وتحويل الصورة في الزمن الواقعي. وأخيرا يقتضي الإبحار الوجود في عالم افتراضي وتحقيق لقاءات بفضل منظومة التحكم في التواصل عن بعد. وتطبيقات الواقع الافتراضي ترتبط أوّلا بالفعل التحكّمي الذي يمكن من التدخل في الأماكن البعيدة أو الأماكن التي لا يستطيع الإنسان الولوج إليها مباشرة أو حتى الأماكن الخطيرة.
والنمذجة تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لتعويض التجارب المكلفة أو التي لا نستطيع انجازها فعليا في الواقع، لذلك تقدم هذه التقنية سندا في عملية التثبّت من ملائمة النموذج للنسق المدروس خاصة وأنّ الاصطناع الذي يستخدم برمجيات معلوماتية متطورة يمكن من دراسة ردود نموذج النسق المتطوّر إذ يتعلق الأمر بأداة تثبت حيث ننطلق من الوصف البنيوي والوظيفي للنسق الذي نريد اصطناعه والمتغير الذي نريد تطبيقه على مداخل النسق، والبرمجية المعلوماتية تمكن من حساب تطور النسق وتمد المنمذج بالنتائج التي تعبر عن نشاطه. وهذا يعني أنّ دراسة النموذج وفق التمثيل الاصطناعي تعوض أساسا التجارب المكلفة على التصاميم، لذلك يقول "رونيه توم" «بموجب التكلفة الباهظة للتجريب يكون علينا أن نستنجد بنماذج مبررة ما قبليا تبريرا جيدا». وبالتالي يجب على المنمذج أن يحقق معرفة معمّقة باشتغال الأنساق التي يسعى إلى اصطناعها حتى يتمكّن من الحكم على حدود اشتغال النتائج التي يتحصّل عليها. والصعوبة الجوهرية التي تعترض المنمذج في عملية التمثيل الاصطناعي تتمثل في تحقيق شرطين متعارضين، فمن جهة يجب أن يكون النموذج دقيقا لتحقيق نتيجة تعكس أحسن ما يمكن الواقع ومن جهة ثانية يجب أن يكون النموذج على غاية البساطة الممكنة لنقلل أكثر ما يمكن من العمليات الحسابية.
ومن هذا المنطلق يرى نوال مولود Noël Mouloud أن استخدام النماذج هو مساعدة اضافية لخدمة غايات معرفية، ناهيك أن كل المختصين في مناهج العلم المختلفة يتحدثون عن النماذج باعتبارها تمكن من تحقيقات أمثل، ويتحدثون عن الأدوار المتكاملة التي تلعبها فيما بينها، فالنمذجة تجعل التبسيط ممكنا ولكن تمكن في نفس الوقت من تناول شامل للموضوع المدروس وبالتالي تمكننا من تجاوز الاختزالات الأحادية. فنحن ننمذج لننسق بين وجهات نظر التفسير في صرامة لا تتماهى والتحجر، بما أنه يجب أن تكون النماذج مرنة وقابلة للتعديل لتستجيب لمقتضيات الاختراع والاكتشاف. وهكذا فإن النمذجة لا تخلط بين الحقيقة المدلول عليها والمحتوى الضيق للتشكيل، وبالتالي تتجنب النمذجة النسقية الدوغمائية التي تنتج عن الخلط بين الموضوع ونموذجه، فالنموذج هو "تخيّل مراقب" Fiction controlée على حدّ عبارة "نوال مولود"، مراقب بنجاح أو فشل التجربة بما أنّ النموذج يخضع لشرط التماسك كأحد معايير البعد التركيبي. ومن هذا المنطلق فإن غائية النمذجة النسقية تتمثل في بناء استراتيجيات وتمكن من إيجاد ومن تنظيم نوايا الفعل الممكنة ونتائجها التي لم تكن تخطر على البال وبالتالي تحديد قواعد الفعل. ذلك أن النمذجة تنظر في مشروعها من جهة كونه مسار له فعل وتاريخ. لذلك فإن المقاربة التليولوجية Téléologique تمكن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد.
ويجب أن نلاحظ أن الخصائص التداولية للنموذج والمتمثلة في قابلية التوظيف والاستعمال والتعديل والمرونة والثبات والايجابية في الأداء تجعل النموذج قادرا على القيام بوظائف مختلفة نذكر منها ثلاث أساسية:
     - وظيفة معرفية: إذ يمكّن النموذج من تفسير النسق المدروس عبر إبراز بعض خصائصه وضبط علاقات بين مداخل النسق ومخارجه، فالفهم يمثل الوسيط بين الهدف القصدي وقوانين بنية المحيط الفيزيائي (طبيعيا كان أو تجريبيا) أو المحيط الاصطناعي (أي المنطقي-رياضي المطبق) أو حتى المحيط الإنساني وهذا الوصف يربط مقاصد المنمذج بالهدف المراد تحقيقه وبقوانين ضغوطات المحيط. وهي قوانين يمكن أن تكون طبيعية أو اصطناعية أو حتى سيكوسوسيولوجية.
     - وظيفة توقعية: إذ يمكن النموذج من التنبأ بتصرّف النسق المدروس وبردوده في وضعيات لم تجر ملاحظتها انطلاقا من المعرفة الحاصلة حول النسق في وضعية معينة، ذلك أن التفسير مثلما بين ذلك "ستراوس" ينطوي على ضرب من التوقع.
     - وظيفة اتخاذ القرار: يوفر النموذج لصاحب القرار المعطيات الضرورية التي تسمح له بإنارة قرار يهدف إلى الفعل في النسق فيكون القرار ملائما للمشكل المطروح وما يتصل به من ضغوطات، إذ لا يجب أن ننسى أن كلّ نموذج هو تمثل يسمح بمعرفة أو فهم أو تفسير كيفية اشتغال النسق المدروس بغاية التحكم فيه أو الفعل فيه. وإن هذه الغاية تضع النموذج في علاقة لا فقط بالمنمذج ولكن أيضا بمن يستعمل النموذج والفاعلين في النسق المنمذج.
يتعلق الأمر إذن، في المستوى التداولي، بالنظر إلى النماذج على أنها وسائل سيطرة وتحكم وهو ما يعني ارتباط النشاط العلمي بالتقني مثلما بين ذلك "لادريار"، فالنمذجة تفتح على التقنية إذ «تضيف للأنساق الطبيعية أنساقا اصطناعية أو تهب الأنساق الطبيعية خاصيات جديدة وطابعا مصطنعا». والنماذج التقنية ليست محايدة وإنما هي متداخلة مع الجيهات العملية وحتى السياسية التي تحيط بالممارسة العلمية وتوجهها. والبعد التداولي للنمذجة النسقية يؤكّد لنا التحالف بين العلم والمصلحة، التحالف "بين السعي إلى فهم العالم والرغبة في قولبته" على حدّ عبارة "ايليا بريقوجين" و"ايليزابات ستنجرس"، ويعلن نهائيا براغماتية المعرفة العلمية في البراديغم البنائي. 

الدرس الثاني: حدود النمذجة:

أ- الحدود الفلسفية:

يبدو أن العلم والتقنية يعطياننا اليوم معرفة حقيقية وسلطة واقعية ففي الصراع ضد البؤس يمكناننا من استغلال عقلاني للموارد الاقتصادية، وفي الصراع ضد المرض كثيرا ما ينجح الطب والجراحة في إنقاذ أرواح بشرية من موت يكاد يكون حتميا : إن العلم والتقنية يقدّمان للإنسان سلطة حقيقة وتبدو النمذجة كممارسة علمية موجهة أساسا للفعل قد رسخت هذا التوجه المعرفي الذي يرمي إلى سيادة الإنسان على الطبيعة بل أكثر من ذلك، إن النمذجة في بعدها الدلالي وفي خاصيتها التليولوجية قد ردّت الاعتبار للذات في إنتاج المعرفة العلمية، إذ تؤكد على الطابع الإنساني للحقيقة، فالحقيقة تنزّل في التاريخ ولم تعد واقعا انطولوجيا بل بناء رمزيا وتمثلا ملائما في ظروف معينة وفي أزمنة معينة.
ردّ الاعتبار للذات في النمذجة يتزامن معه ردّ الاعتبار للمعنى والتأويل في المعرفة العلمية ذلك أنّ البراديغم الوضعي بإقراره للموضوعية كشرط أساسي في المعرفة العلمية لم يستبعد فقط الذات باسم الحياد والكونية بل أقصى أيضا المعنى من خطابه وحصره في الفلسفة، والقانون العلمي يمثل في البراديغم الوضعي قانونا للطبيعة في ذات الوقت إذ تقتصر مهمة الباحث الموضوعي على اكتشاف هذا القانون الذي يوحّد المعرفة ويوحّد الذوات، يوحّد المعرفة من جهة كون الظواهر المتعددة تُرد إلى نفس القانون، ويوحّد الذوات من جهة كون كلّ الذوات ترى نفس القانون في نفس الظواهر المتعددة، وهذا يعني أن فكرة القانون في البراديغم الوضعي تعبر عما اسماه "ألان باديو" Alain Badiou بثنائية الواقعية ـ القانون، وهذه الثنائية تعبر عن الابستيمية التماثلية التي تحدّد الحقيقة أنطولوجيا، أمّا في النمذجة فإن اعتبار النشاط المعرفي اختراعا يبني تصوّرا للظواهر بطريقة حرّة من قبل الباحث يضع الذات مرة أخرى في محور العملية المعرفية وبالتالي يغيّر ثنائية الواقعية القانون بثنائية الواقع النموذج وفي هذه الثنائية لا نتحدّث عن تطابق بين النموذج والواقع وإنما نتحدّث عن ملائمة، ملائمة تجعل النموذج المقبول ليس النموذج الوحيد الممكن بل إن هو إلا معنى ممكن ينتجه المنمذج كذات متدخلة باختياراتها وأهدافها وغاياتها في إنتاج المعرفة باعتبارها معنى ممكن للواقع، بهذه الكيفية لن يكون بإمكان "هوسّرل" E. Husserl اتهام البراديغم البنائي بإقصاء مسائل المعنى مثلما كان الحال مع البراديغم الوضعي.
غير أن النمذجة باعتبارها المعرفة التي نتجت عن كيفية التفكير وضرب الفعل الذي يناسبها بحيث تتمثل الحقيقة في المطابقة بين نماذج تجربتنا للعالم وهذه التجربة، وحيث يكون النموذج تمثلا غائيا موجّها لمشاريع الفعل بحيث ينظم العقل ذات بتنظيمه للعالم وتكون تفعيلا للممكن باعتبار التفاعل المؤسس للمعرفة بين الذات والموضوع، النمذجة التي تجعل من رجل العلم المعاصر متصوّر ملاحظ ومنمذج لفعل ذكيّ يصف بناء استراتيجيا الفعل، تقترح علاقة تطابق بين وضعية مدركة ومشروع متصوّر، لا تمثل في منظور "بولو" Nicolas Bouleau، علما بقدر ما هي طريقة تستخدم العلم، فهي قول وفعل غير محايد وعلى صلة وثيقة بالأيدولوجيا، وذلك ما يتمظهر حسب "ألان باديو" في ارتباط النمذجة بمعياري الاستقصاء والبساطة كمقولات ارتبطت "بالعقل التصنيفي للعصر الكلاسيكي" في مقاربته النقدية للفن، وهذا ليس بغريب على عقلانية النمذجة بما أنها تقوم على إنشاء خيالي لصورة مقبولة للواقع تمثلها النماذج من جهة كونها تيسر سبل الفعل الممكن في الواقع، ذلك أن النمذجة تخلق واقعا افتراضيا لتأويج الفعل، فعل صاحب القرار وهو ما يكشف عن انغراس النمذجة في رهانات مخصوصة تابعة لجهات غير علمية. وكما يمكن أن نغالط باللغة الطبيعية نستطيع أن نغالط باستعمال النماذج حيث "يتحول الإخضاع التقني لشروط الإنتاج إلى ضرورة لا زمنية لنمط اقتصادي يكون النموذج فيه مثالا على الاكراهات المفيدة" مثلما عبر عن ذلك "ألان باديو"، وتساعد الرياضيات بطبيعة الحال على تأكيد هذه المغالطة وتمريرها بشكل أفضل إذ يقول "بولو" "وليس للرياضيات بهذا الخصوص أية وظيفة تطهيرية، على خلاف ذلك تكون الرياضيات الصحيحة في ظاهرها لياقة وأدبا يمكن أن يخفي الغايات الأقل نبلا"، ذلك أنّ النجاعة وسخة، خاصة وأن ارتباط النمذجة بالسيبارنيطيقيا ييسّر تجاوز حدود الهيمنة على الطبيعة إلى الهيمنة على الإنسان و"الان باديو" يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يعلن أن النمذجة لا تعبر عن السمة المميزة للعلم وإنما "عن الصورة البرجوازية للعلم"، صورة العلم المعولم الذي لا يخفي ولا يتحرّج من ارتباطه العضوي برأس المال، إذ تكشف النمذجة في مستوى طرائقها كما في مستوى غاياتها عن افتقارها للاستقلالية، وأنّى لها أن تكون مستقلة وهي التي تنتج تمثلا في مكاتب الدراسات وفي مكاتب رجال الاعمال والشركات العالمية والمؤسسات العسكرية تحت الطلب، وكصورة للعلم المعولم تتقدم النمذجة في صورة الكوني الذي يخوّل لأمريكا بالتمظهر بعدم احتكار العلم والتقنية فنمذجوا ولكن لا تطالبوا بالمعرفة الذرية و بالتكنولوجيا النووية.
مطلب النمذجة ليس إذن، مطلب الحقيقة وإنما هو مطلب الهيمنة كمقولة من مقولات السلطة بالشكل الذي جعل المعرفة مسالة حكومة وصراع بين الحكومات، مطلب النمذجة كممارسة متواطئة مع السلطة يجانب إذن مطلب الكلي بما هو مطلب إنساني ولا يتعلق الامر سواء بالنسبة لـ: "بولو" أو لـ:"باديو" برفض النمذجة في ذاتها كممارسة علمية قد تفيد الإنسانية إذا ما أحسن توظيفها وإنما برفض مبادئها والغايات التي تتحكم في إنتاجها وهو ما يحمّل العلماء والعلماء الجدد والفلاسفة ورجال السياسة وكلّ كيان ايتيقي مسؤولية إخراج العلم من البوتقة الضيقة للهيمنة وجنون الهيمنة السائد في وقتنا الراهن. يتعلق الأمر إذن بمصالحة الإنسان مع الإنسان، مصالحة الإنسان اليوم مع الكلّي الذي نظّرت له الحداثة الغربية مع "كانط" حتى لا تكون التقنية توجيها وتحكما وحتى يضمن العلم استقلاليته، وعلى الإنسانية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة إزاء خيارتها عساها تختار إنقاذ الكوكب.

ب- الحدود الإبستيمولوجية:

       تتقدم النمذجة باعتبارها تمشي علمي يأتي لتجاوز ثغرات البراديغم الوضعي الذي بدأ يلفظ أنفاسه عندما وضعت إشكالية أسس الرياضيات حدا لادّعاء الفكر الصوري الحقيقة المطلقة والكونية وعندما ضربت الفيزياء الذرية الأساس الأنطولوجي للواقع العلمي لمّا أقرّ هيزنمبورغ بأن الباحث يتدخل في الظاهرة عبر أدوات القيس ويفرض تغيرات كمية على موضوع دراسته، وغدت الحتمية مبدأ خصوصيا جهويا لا كونيا مثلما ادعى ذلك "لابلاص" منذ القرن الثامن عشر حيث اكتشف العلماء لا حتمية الظواهر الذرية.
غير أن الإقرار بأن النمذجة تعني التخلي عن النظر إلى العلم وفق البراديغم الوضعي بما هو اكتشاف وكشف لحقائق كلية وموضوعية والنظر إلى العلم "باعتباره اختراعا أين يتم تصور الظاهرة مبنية اصطناعيا وبطريقة حرة من قبل الباحث" على حدّ قول "لوموانيو" J.L. Le Moigne، يضعنا أمام إشكالات عديدة، فأوّلا إلى أيّ مدى يمكن القول بأننا نقطع في النمذجة بالمعنى البشلاردي مع العلم الوضعي بالصفة التي تخوّل للوموانيو الحديث عن "انشقاق شبه معلن بين هذين الثقافتين"؟ وثانيا ما مشروعية القول بتساوي النماذج في الصلاحية طالما تشترط النمذجة تعالي النموذج على الأحكام التي تصدّق قولا وتُسفـّه آخر؟ هل أن غياب هذه الأحكام يعني أن كلّ النماذج مقبولة؟ وفيم تتمثل عندها مهمة رجل العلم مادام كلّ شيء مقبول مثلما تدعو إلى ذلك فوضوية "فيروباند" P. Feyerabend؟ ثم كيف ستكون ايتيقا علم لا يهتم بالواقع إلا من جهة الفعل فيه؟
يجدر بنا أن نبدأ بمشكل الحقيقة كما يتجسد في مستوى النمذجة النسقية، خاصة وأن الحقيقة كمطلب هو ما ضحت به النمذجة لصالح التاريخية Historicité. وكلمة تاريخية تـُستعمل لتفيد أوّلا أنّ حدثـًا ما وقع فعلا وبالتالي تـُؤخذ التاريخية في مقابل الأسطورة. لكن خلف هذا المعنى البسيط يوجد معنى فلسفي يفيد كون العقل البشري ليس مجرّد ذكاء يتناول ما هو موجود من نظرة واحدة ولكن ذكاء يعي بوضعه التاريخي. وهذا المعنى للتاريخية يقحم في الفلسفة مبحثا يتعلق بالنقد الذاتي يجعل الفلسفة تعترض على تصورها الميتافيزيقي للحقيقة، وهذه السيرورة التي تتظنن على مفهوم الحقيقة تـُعرف في الفلسفة بإشكالية التاريخية، أي إشكالية النسبية التاريخية، إذ يتعلق الأمر بالنزوع إلى اعتبار التجربة التاريخية الطريق الإنساني لمعرفة الحقيقة. ومن هذا المنطلق يرى "ديلتاي" Dilthey أن كلّ مجموع بُنيوي هو مجموع مُعاش وهذا يعني أن النموذج المحبّذ للتاريخ عند "ديلتاي" هو السيرة الذاتية، ويبدو أن تمثل النمذجة لموضوعها بما هو صيرورة صائرة يتموضع في هذا المعنى للتاريخية وهو ما يعني تضحية النمذجة بمفهوم الحقيقة لفائدة التاريخية، فـ"النموذج الذي تمّ إثبات صلاحيته ليس أبدا إلاّ مقاربة من بين مقاربات أخرى" مثلما أقرّ ذلك "نيكولا بولو" Nicolas Boulau.
ذلك أن الملائمة والصلاحية أو عدمها حلت محلّ الصواب والخطأ، والصالح الملائم هو النافع. وبما أنّ النمذجة بُنيت أساسا على التحكم في المصاريف وتأويج الفعالية وقابلية الاشتغال فإن المنمذج لا ينتج إلا نماذج صالحة بالضرورة، ومن هذا المنطلق يرى "بولو" أن الصلاحية لا تؤسس مشروعية النموذج وإنما تمثل مبدأ قبوله إذ أن الصلاحية تتحدّد بالمواجهة بين النموذج وما يمثله هذا النموذج وهذه المواجهة تعبّر عما يسمح به النموذج من فعل ولذلك نقبله. و"بولو" يذهب إلى حدّ القول بوجود تناقض في صلب النمذجة، تناقض بين النماذج الوصفية أو التفسيرية والنماذج الكمية أو النوعية، فنحن في النموذج الوصفي ننمذج مثلا حريقا في الغابة عبر تمثل انتشار الحريق انطلاقا من قانون يتوقف على سرعة الريح، قانون يعدّل انطلاقا من الإحصائيات التي تمّ إقرارها من ملاحظة الحرائق السابقة، أما في النموذج التفسيري فيتعلق الأمر باعتبار طاقة الاحتراق بالنسبة إلى المساحة الخضراء مما يقتضي اعتبار قانون يحدّد دور الريح في كمية الأكسجين. وجلي أن هذا النوع من النماذج يستعمل المعارف العلمية والقوانين التي تم التوصل عبر النمذجة التحليلية ولا مجال عندها عن الحديث عن قطيعة بين العلمين بما أن قوانين النمذجة التحليلية هي الأساس النظري لهذه النماذج.
شأن آخر تماما، هو شأن النماذج الكمية أو النوعية فهذه النماذج تغطّي فشلها التفسيري النظري بالتحاليل الرقمية الافتراضية التي تستخدم الرسوم الكيفية الخالصة ويبدو أن المنمذج في هذا النوع من النماذج "لا يملك في الغالب نظرية مرجعية تكون إطارا لفعله أو نشاطه" على حدّ قول "بولو"، وهو ما يطرح مشكلا ثانيا لا يتعلق هذه المرة بطبيعة الحقيقة التي تقدمها النمذجة، وإنما مشكلا يرتبط بطبيعة العلاقة بين النموذج والنظرية في النمذجة النسقية. فالنمذجة في مستوى النماذج الكمية أو النوعية لا ترتبط دائما بنظرية في حين أنها تقدّم في مستوى النماذج الوصفية أو التفسيرية تفسيرا للنظرية بما أنها تأتي بعد النظرية لتوضح البناء النظري. مشكل علاقة النظرية بالنموذج كما يطرحه "بولو" يجعله يستخلص أن النمذجة بما هي لغة المهندسين والشركات الاقتصادية والمؤسسات العسكرية ليست لغة للعلم بقدر ما هي لغة خارج النظرية العلمية.
كما يجدر بنا أن نذكر أن منظّرو النمذجة النسقية كثيرا ما يفتخروا بأن هذا البراديغم العلمي يمثل حلا لاختزالية النمذجة التحليلية، ذلك أن العلم في شكله الوضعي يقوم على اختزال الكثرة والاختلاف إما في وحدة المبدأ أو في وحدة القانون وهو ما يؤدي إلى اختزال الظواهر المدروسة في بعدها الكمي القابل للقياس. والفكر الاختزالي حسب "إدغار موران" Edgar Morin يعتبر واقعا حقيقيا "لا الكليات ولكن العناصر، لا الكيفيات ولكن القياسات، لا الكائنات الموجودات ولكن المعطيات القابلة للصورنة والقابلة للترييض". وهو ما يعني أن الاختزالية تقوم على إرجاع المعقد إلى البسيط إذ هي منهج لبناء وصف للأنساق دون اعتبار الأنساق الفرعية التي تكونها وبالتالي دون اعتبار العلاقات بينها، والنمذجة النسقية من جهة كونها تسعى إلى دراسة المركب باعتباره كذلك تبدو قد تجاوزت اختزالية العلم الوضعي، لكن هل أن العلم المنمذج ينتج فعلا معرفة بشأن الواقع في كليته؟ ألم يبيّن لنا "باسكال نوفال" Pascal Nouvel أن استراتيجيا الفهم في النمذجة بما هي تبسيط هي استراتيجيا إهمال؟ ألم يحدّد "لادريار" Ladriere النموذج باعتباره تمثلا وتمثلا يعكس غائية المنمذج كما يدقق "لوموانيو" وبالتالي رؤية المنمذج للواقع؟
وهذا يعني أن خاصية التبسيط بالإضافة إلى الخاصية التليولوجية Téléologique التي تميّز العلم المنمذج تجعل منه بالضرورة علما اختزاليا. أمّا إذا أضفنا إلى ذلك أنّ كلّ نموذج يتم إنتاجه يتعلق بسياق معين فإن الاختزالية تتأكد كبعد هام من أبعاد النمذجة النسقية، وكأن قدر المعرفة العلمية هو أن تبقى كونية بالحق لا بالحدث، خاصة وأن النمذجة كممارسة علمية تهدف إلى الفعل أساسا. ومن هذا المنطلق فإن النمذجة النسقية هي حليفة التقنية، وباعتبارها كذلك فإنها ليست غريبة على ما يـُسمى بالنظام التقني أي مجموع التقنيات المتفاعلة التي تحيل الواحدة منها على الأخرى بالكيفية التي تجعل كلّ تقنية تكتسب قيمة هامة في المنظومة التي تنتمي إليها، قيمة قد لا تحظى بها خارج علاقات تفاعلها مع النظام التقني الذي تنتمي إليه. وإذا كانت نظرية النماذج تبدو اليوم رؤية ضرورية لا غنى عنها فليس ذلك لأنها نجحت في اختراق الواقع وتفسيره بل لأنها منظومة تحكم متواطئة مع السلطة في مختلف أشكالها، مما جعل "كارل بوبار" K. Popper يعبر عن قلقه إزاء هذا التوجه قائلا: "أخشى أن فكرة السيادة على الطبيعة تتضمن في الغالب عنصرا آخر، إنه إرادة القوة في حدّ ذاتها، إرادة الهيمنة"، والهيمنة على الطبيعة لا يمكن إلا أن تؤدي إلى الهيمنة على الإنسان فالإنسان من الطبيعة، لذلك يرى "فرونسوا ليوتار" F. Lyotard: "إنّ مسألة المعرفة في عصر الإعلامية هي مسألة حكومة أكثر من أيّ وقت"، فالمنمذج ينمذج لرجل الاقتصاد، ينمذج لرجل الحرب، ينمذج لرجل السياسة، لأولئك الذين يتخذون القرار خاصة وأن النموذج يضطلع بوظيفة اتخاذ القرار، إذ يوفر لصاحب القرار المعطيات الضرورية التي تسمح له بإنارة قرار يهدف إلى الفعل. لذلك لا يتوانى "جون روستان" J. Rostin عن التعبير عن قلقه المتزايد من الممارسة العلمية الهمجية والهجينة، فلا هي علم ولا هي تقنية، ممارسة علمية جعلت الإنسان يسيطر على الطبيعة ويتحول إلى إله دون أن يكون جديرا بإنسانيته، يقول "روستان":"لقد جعل العلم منا آلهة قبل أن نكون جديرين بإنسانيتنا".

الخاتمة:

إن العلم لا يوجد في صيغة المفرد وإنما في صيغة الجمع. فما يوجد هو علوم مختلفة واختصاصات مختلفة يمكن تمييزها من جهة الموضوع إلى علوم صورية وعلوم تجريبية وعلوم إنسانية وعلوم اصطناعية، كما يمكن تمييزها من جهة طبيعتها إلى علوم نظرية وعلوم تطبيقية، ويمكن تمييزها من جهة طبيعة المعرفة التي تقدمها إلى علوم تفسيرية وأخرى تأويلية... إلى غير ذلك من التمييزات المختلفة والتصنيفات المتباينة للعلوم. ومن هذا المنطلق يتحوّل التفكير في العلم إلى التفكير فيما هو مشترك بين جميع العلوم وقد يصبح السؤال عندها هل تستجيب العلوم على اختلافاتها وتبايناتها وخصوصيتها لمطلب الكوني؟
وعندما ننظر في العلم من جهة القيمة، بما أن العلم ليس مجرّد معرفة من أجل المعرفة بل هو معرفة من أجل التحكم في الطبيعة وتحقيق المنفعة وهذا ما تأكد منذ القرن 16 عندما شدّد "فرانسيس بيكون" على أن العلم قوة أي قدرة على التأثير في الواقع وتطويعه لصالح الإنسانية، يصبح السؤال عندئذ: هل في استجابة العلم لمطلب النجاعة التفات عن مطلب المعنى والقيمة؟ أمّا إذا أضفنا إلى العلم الزوج التقابلي الذي تمثله الحقيقة والنمذجة فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا، إذ يبدو في هذه الوجهة أن كونية العلم كمعرفة تتأسس على هذا الزوج التقابلي، فإما أن تتحقق بالحقيقة وإما أن تتحقق بالنمذجة.
لقد حدد الفلاسفة الحقيقة بما هي صفة المعرفة المطابقة لموضوعها وهذا يعني أن الحقيقة هي قيمة معرفية بمعنى المعيار الذي يمكننا من الحكم على المعارف. غير أن هذا التحديد المثالي للحقيقة شهد تحوّلات عديدة في تاريخ المعرفة العلمية، تحوّلات جعلت الحقيقة في العلم تنحى إلى أن تكون حقيقة رياضية لا تشترط التطابق مع الواقع وإنما تقتضي تطابق الفكر مع ذاته، أي تشترط عدم التناقض في الفكر، ذلك أن الرياضيات هي علم صوري يبحث في العلاقات المنطقية للفكر وهي علم يستخدم المنهج الاكسيومي Axiomatique بما هو ضرب من العرض للعلوم الرياضية، يقوم بجرد مجموعة الأوّليات التي يضعها العقل بكامل الحرية ليستخلص منها النتائج الضرورية شريطة أن لا يكون هناك تناقض بين الأوليات التي انطلقنا منها والنتائج التي استخلصناها. وذلك هو الشأن في الفيزياء الرياضية، وهو ما يعترف به كل من "أنشتاين" Einstein و"هيزنبورغ" Heisenberg، فالباحث في العلوم الفيزيائية لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة ما يقوله عن الواقع مع الواقع ذاته، بل أن مثل هذا البحث أصبح غير ذي دلالة في العلم. إذ نتبين أن الحقيقة بما هي مطابقة المعرفة للواقع هي معيار وقع التضحية به في سبيل بناء رياضي أكسيومي توجه نحو تحقيق المنفعة. لذلك يشبه "أنشتاين" العملية المعرفية في الفيزياء النظرية بمثال الساعة المغلقة التي لا نستطيع فتحها، فعالم الطبيعة في نشاطه العلمي كمن يسعى إلى فهم آلية اشتغال ساعة لا يستطيع فتحها لذلك فإنه سيفترض إذا كان فطنا الطريقة التي تشتغل بها الساعة ولكنه لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة افتراضه للكيفية الفعلية التي تشتغل بها الساعة بما أنه لا يستطيع فتحها. إذا لم تكن مطابقة المعرفة للواقع هي معيار صدق النظرية العلمية فما هو دور التجربة إذن؟
إن التجربة ليست مقياسا للحقيقة، ووظيفتها تتمثل في التثبت من مدى ملاءمة المنظومة الرياضية المختارة بكامل الحرية للظاهرة المدروسة، يقول أينشتاين «ويمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا للمفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملها»، لأن ذلك ما يجعل النظرية نافعة، أي أن العلم براغماتي بمعنى أن أهمية النظرية العلمية تقاس بالمنفعة التي تحققها للإنسان أي بالنتائج العملية، ونظرية نافعة هي نظرية تمكننا من إنتاج تقنية تفيدنا في الحياة العملية.
ويبدو أن هذا المنحى البراغماتي الذي سار فيه العلم أصبح أكثر تمظهرا في ممارسة علمية حديثة نسبيا تتمثل في النمذجة، فما النمذجة؟ وما هي آليات اشتغالها كمسار علمي؟ ما هي أبعادها المختلفة؟ وهل يمكن اعتبارها العامل الموحد للعلم؟ ثم قبل ذلك ما النموذج؟ وما الفرق بينه وبين الباراديغم؟
إن الباراديغم، حسب تعريف موران E. Morin، هو بناء نظري يوجّه الخطاب والبحث ورؤية العالم أو هو مجموع مبادئ التركيب والاقصاء الأساسية التي توجّه كلّ فكر وكلّ نظرية وكلّ رؤية للعالم. فالباراديغم يقتضي، إذن، فكرة مفاهيم رئيسية، فكرة ترابط ضروب علائقية منطقية قوية، إذ أن الباراديغم يقارب مشكل المبادئ الأولى في الخطابات وفي النظريات وفي أنساق التفكير، وهذه المبادئ الأولى يمكن أن تؤسس علاقات التقابل أو علاقات التمييز أو علاقات الجمع، مثال ذلك أن الفكر العلمي كان محكوما ببراديغم فصل عالم الموضوع على عالم الذات، فعالم الموضوع محكوم بشرط الصّرامة والمنطق والحساب في حين أن عالم الذات محكوم بالأحاسيس والانفعالات والعاطفة.
ويرى الفيلسوف الأمريكي "توماس سمويل كوهن" Thomas Samuel Kohen أنّ كلّ ثورة علمية تتحدّد بظهور براديغمات جديدة وهو ما يعني أن المعرفة العلمية تشتغل بالبراديغمات وأن تطوّر العلم لا يتحقق عبر تكديس المعارف ولكن بتحول في المبادئ المنظمة للمعرفة، أي تحوّل في البراديغمات وبالتالي فإن ولادة كل براديغم تُعلن تحوّلا في المشاكل المعلنة والمدروسة، تحولا مرفوقا بتغير قواعد الممارسة العلمية، كذلك كان الشأن عندما وقع استبدال الأرض بالشمس كمركز للعالم إذ تغيرت معه نظرتنا إلى العالم ومررنا من عقلانية أرسطية تفسر العالم تفسيرا أنتروبومورفيا كيفيا إلى عقلانية كمية تفسّر العالم بقوانين رياضية.
من هذا المنطلق يرى "جون لويس لوموانيو" J.L. Lemoigneأنّ العلوم الحديثة مثل النسقية La Systhemique وعلوم التنظيم والقرار وعلوم المعرفة والتواصل التي تطوّرت انطلاقا من 1948 سنة ميلاد السيبارنيتيقا La Cibernitique (علم التوجيه)، تقتضي تفكيرا أبستمولوجيا يراجع البراديغم الوضعي ذلك أنّ هذه العلوم الجديدة لا تتحدّد بموضوعها الذي يمكن ملاحظته وضعيا ولكن بمشاريعها المعرفية.
فهذه العلوم وخاصة منها علوم الاصطناعي لا تنظر إلى المعرفة باعتبارها يقول لومواينو:« اكتشاف أو انكشاف مواضيع طبيعية محدّدة، بل باعتبارها اختراعا أين يتمّ تصور الظواهر مبنية اصطناعيا وبطريقة حرة من قبل الباحث»، وهذا يعني أن علوم الاصطناعي لا تنظر إلى صلاحية قضاياها انطلاقا من مبادئ وضعية، فالوضعية لا تستطيع أن تؤسس هذه العلوم وأسس هذه العلوم يشبهها "لوموانيو" بأرخبيل علمي تمثل علوم الهندسة جزيرته الرئيسية، إذ تتقدم الابستيمولوجيا البنائية كأفق ممكن لتجاوز صعوبات العلوم الوضعية في تفسير المركب والفعل فيه بدقة، ومن هذا المنطلق يرى "لوموانيو" أن البنائية تمثل براديغم علمي محترم.
النموذج ليس البراديغم إذن. و النموذج الذي كان يعني في الأصل المرجع الذي سنقلده أو سنعيد إنتاجه بما هو المثال وتحوّل في مرحلة أولى ليفيد نتيجة هذا التقليد إذ نتحول من نموذج الفنان إلى التمثل الذي يحققه الفنان، أصبح اليوم مستعملا في العلوم ليشير لا إلى المثل الأعلى العلمي و لا إلى المُثل الأفلاطونية و لا إلى الصورة الحسية للنظرية المجرّدة ولا أيضا إلى المجاز أو المماثلة الرمزية بصورة خاصة وليس هو الشيء المصغّر، و إنما يشير إلى التمثل الذهني لشيء ما ولكيفية اشتغاله، إنه يقول "فاليزار"B.Walliser: "تمثل لشيء واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا يتمّ التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية".
وهذا يعني أن النموذج هو بنية مركبة تتفاعل فيها ثلاث أبعاد رئيسية، بعد تركيبي، وبعد دلالي، وبعد براغماتي أو تداولي. وعندما نضع شيئا ما في نموذج نستطيع أن نقلّد اصطناعيا تصرف هذا الشيء وبالتالي الاستعداد لردوده الممكنة. وهو ما يتضمن أنّ النمذجة ليست إلا الفكر المنظّم لتحقيق غاية عملية، فالنموذج هو النظرية الموجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه، ذلك أنه أمام عجز المقاربات التحليلية على تفسير الظواهر الجديدة (الظواهر المركبة والمعقدة) حاول الباحثون المعاصرون إيجاد مناهج بحث تتلاءم مع هذه الظواهر، والنمذجة هي أحد هذه المناهج المعتمدة في هذا الاتجاه لذلك تقدم النمذجة باعتبارها فعل استراتيجي يتطلب مشاركة من الفاعلين. إنها شكل جديد من إبداع المعرفة تكون فيعه العلاقات بين النظرية والممارسة، بين البحث والفعل وثيقة جدا بما أنها بحوث تهدف إلى تغيير عبر التشكيل المتفاعل للفعل والخطاب، إنها تمشّي يُنتج معارف نظرية وعملية ويقتضي مسار تعاون بين باحثين وممارسين من اختصاصات مختلفة ممّا يؤدي إلى توسيع الإشكاليات وسبل حلولها الممكنة.
و هذا يعني أن النمذجة تسعى قبل كل شيء إلى فهم ما يحدث ذلك أن المنمذج لا يبحث فقط عن حل خبريEmpirique) ) يقول "باسكال نوفال" Pascal Nouvel «و لفهم شيء ما علينا أن نهمل أشياء كثيرة أخرى والنموذج هو التعبير عن مثل تلك العملية المراقبة للإهمال» ذلك أن النموذج في منظور "نوفال" يهدف أساسا، كوسيلة تبسيط، إلى الفهم فالمنمذج ينمذج ليفهم و ليُفْهِم. و بهذا المعنى فإن النموذج يمكن أن يكون قانونا رياضيا لذلك يعتبر "نوفال" أن قانون نيوتن F= m. a ) ) (ق = ك . س) (القوة تساوي كمية الكتلة مضروبة في كمية التسارع) يمثل نموذجا. وبالتالي فإن النمذجة ليست إلا تواصلا مع تقليد علمي متجذر في التاريخ يتمثّل في الإقرار بكون العلم هو تفسير للمرئي المعقد باللامرئي البسيط ويتقدم النموذج باعتباره وسيلة هذا التبسيط بالنسبة لنوفال.
وهكذا فان النموذج هو نسق رموز يمكننا من استحضار اغلب الإدراكات التي نكونها عندما نريد وصف ظاهرة سواء مُلاحظة أو مُتخيلة، حتى نتمكن من تأويلها عقليا. وتطوّر مناهج البرمجيات المعلوماتية مكّن النمذجة من استثمار حقل الاصطناعات الأكثر اختلافا كما مكّنتها من بناء وتقييم المردود الزماكاني Spatiotemporel للظواهر المنمذجة، وهذا يعني أنه، أن ننمذج صيرورة ديناميكية، هو أن نصفها بطريقة علمية كمية بواسطة الرياضيات أو أي لغة أخرى حتى وإن كانت طبيعية لأن ذلك يمكننا من دراسة تطوّر هذه الصيرورة الديناميكية ومن مراقبتها عبر اصطناع المتغيرات الممكنة وعبر استبدال بعض المتغيرات الأخرى بالتناسب مع الفعل الذي نريد تحقيقه. وبالتالي فإن النمذجة تهدف أساسا إلى:
* تـأويج الفعالية Efficacité.
* تأويج إمكانية الاشتغال Fiabilité.
* التحكّم في المصاريف.
* تأمين التحكم والمراقبة للظاهرة (المشروع).
فالنمذجة إذن تمكّن من الحصول على حلّ فعال وقابل للاستغلال بما أنها تأخذ بعين الاعتبار كلّ المتغيرات وكلّ الحالات الممكنة، إذ يتعلق الأمر بالبحث عن الحلّ الأمثل الذي يكون بالضرورة أكثر فعالية من أيّ حلّ تقريبي، ولكن أيضا أفضل اشتغال بما أننا نعرف التأثيرات المتناسبة مع مختلف المتغيرات ونعرف بالتالي أي المتغيرات أهمّ وأيها ثانوي. وعندما ننمذج تكون لدينا وسائل كمية تمكننا من تحديد المتغيرات الأكثر أهمية وبالتالي من التحكم في مصاريف المشروع، فمثلا، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تأويج موضع المستودعات فإننا نضطر إلى دفع مصاريف تنقل أكثر. فالنمذجة تمكننا من التحكم في المشروع ومراقبته إذ نعرف ما يجب فعله ونعرف ما هو مهمّ فنتجنّب بذلك المفاجآت غير السارة.
وهكذا فإن المقاربة النسقية للنمذجة هي منهجية جديدة تمكّن من تجميع وتنظيم المعارف لتأويج النجاعة في الفعل وتقتضي دراسة المشكلات في كلّيتها وفي تعقدها وفي ديناميكيتها الخاصة لذلك تتأسس النمذجة على أكسومية اتصالية أو على بداهات علائقية تمكن من تجاوز عقبة الاختزالية التبسيطية المكبلة للمقاربات العلمية الوضعية، ذلك أن نظرية النسق العام تجعل من موضوع النمذجة مشروعا في محيط نشيط وتمكّن الباحثين من تمثل الظواهر القابلة للتحليل جزئيا أو كليا ومعرفة هذه الظواهر تمرّ عبر علاقة جدلية ثلاثية بين الوجود والفعل والصيرورة.

يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله بطريقة صورية ودون عودة إلى التجربة في أغلب الأحيان إلاّ في المستوى الافتراضي أي وصف نسق واقعي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب، فالنمذجة هي إذن مبدأ أو تقنية تمكّن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي يمكّن من فهم الأنساق المركّبة والمعقدة عبر خلق نموذج هو بنية صورية تعيد إنتاج الواقع افتراضيا.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

الانّية والغيرية