العلم بين الحقيقة والنمذجة

في ابستيمولوجيا النمذجة
إن العلم لا يوجد في صيغة المفرد و إنما في صيغة الجمع. فما يوجد هي علوم مختلفة واختصاصات مختلفة يمكن تمييزها من جهة الموضوع إلى علوم صورية وعلوم تجريبية وعلوم إنسانية، كما يمكن تمييزها من جهة طبيعتها إلى علوم نظرية وعلوم تطبيقية، و يمكن تمييزها من جهة طبيعة المعرفة التي تقدمها إلى علوم تفسيرية وأخرى تأويلية... إلى غير ذلك من التمييزات المختلفة والتصنيفات المتباينة للعلوم. ومن هذا المنطلق يتحوّل التفكير في العلم إلى التفكير في ما هو مشترك بين جميع العلوم وقد يصبح السؤال عندها هل تستجيب العلوم على اختلافاتها وتبايناتها وخصوصيتها لمطلب الكوني ؟
و عندما ننظر في العلم من جهة القيمة، بما أن العلم ليس مجرّد معرفة من أجل المعرفة بل هو معرفة من أجل التحكم في الطبيعة وتحقيق المنفعة وهذا ما تأكد منذ القرن 16 عندما شدّد "فرانسيس بايكون" على أن العلم قوة أي قدرة على التأثير في الواقع وتطويعه لصالح الإنسانية، يصبح السؤال عندئذ: هل في استجابة العلم لمطلب النجاعة التفات عن مطلب المعنى والقيمة؟ أمّا إذا أضفنا إلى العلم الزوج التقابلي الذي تمثله الحقيقة والنمذجة فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا، إذ يبدو في هذه الوجهة أن كونية العلم كمعرفة تتأسس على هذا الزوج التقابلي، فإما أن تتحقق بالحقيقة وإما أن تتحقق بالنمذجة.
لقد حدد الفلاسفة الحقيقة بما هي صفة المعرفة المطابقة لموضوعها وهذا يعني أن الحقيقة هي قيمة معرفية بمعنى المعيار الذي يمكننا من الحكم على المعارف. غير أن هذا التحديد المثالي للحقيقة شهد تحوّلات عديدة في تاريخ المعرفة العلمية، تحوّلات جعلت الحقيقة في العلم تنحى إلى أن تكون حقيقة رياضية لا تشترط التطابق مع الواقع وإنما تقتضي تطابق الفكر مع ذاته، أي تشترط عدم التناقض في الفكر، ذلك أن الرياضيات هي علم صوري يبحث في العلاقات المنطقية للفكر وهي علم يستخدم المنهج الاكسيومي Axiomatique بما هو ضرب من العرض للعلوم الرياضية، يقوم بجرد مجموعة الأوّليات التي يضعها العقل بكامل الحرية ليستخلص منها النتائج الضرورية شريطة أن لا يكون هناك تناقض بين الأوليات التي انطلقنا منها والنتائج التي استخلصناها. وذلك هو الشأن في الفيزياء الرياضية، وهو ما يعترف به كل من "أنشتاين" Einstein و"هيزنبورغ" Heisenberg، فالباحث في العلوم الفيزيائية لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة ما يقوله عن الواقع مع الواقع ذاته، بل أن مثل هذا البحث أصبح غير ذي دلالة في العلم. إذ نتبين أن الحقيقة بما هي مطابقة المعرفة للواقع هي معيار وقع التضحية به في سبيل بناء رياضي أكسيومي توجه نحو تحقيق المنفعة. لذلك يشبه "أنشتاين" العملية المعرفية في الفيزياء النظرية بمثال الساعة المغلقة التي لا نستطيع فتحها، فعالم الطبيعة في نشاطه العلمي كمن يسعى إلى فهم آلية اشتغال ساعة لا يستطيع فتحها لذلك فإنه سيفترض إذا كان فطنا الطريقة التي تشتغل بها الساعة ولكنه لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة افتراضه للكيفية الفعلية التي تشتغل بها الساعة بما أنه لا يستطيع فتحها. إذا لم تكن مطابقة المعرفة للواقع هي معيار صدق النظرية العلمية فما هو دور التجربة إذن؟
إن التجربة ليست مقياسا للحقيقة، ووظيفتها تتمثل في التثبت من مدى ملاءمة المنظومة الرياضية المختارة بكامل الحرية للظاهرة المدروسة، يقول أنشتاين « و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا للمفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملها»، لأن ذلك ما يجعل النظرية نافعة، أي أن العلم براغماتي بمعنى أن أهمية النظرية العلمية تقاس بالمنفعة التي تحققها للإنسان أي بالنتائج العملية، و نظرية نافعة هي نظرية تمكننا من إنتاج تقنية تفيدنا في الحياة العملية.
و يبدو أن هذا المنحى البراغماتي الذي سار فيه العلم أصبح أكثر تمظهرا في ممارسة علمية حديثة نسبيا تتمثل في النمذجة، فما النمذجة؟ وما هي آليات اشتغالها كمسار علمي؟ ما هي أبعادها المختلفة؟ وهل يمكن اعتبارها العامل الموحد للعلم؟ ثم قبل ذلك ما النموذج؟ وما الفرق بينه وبين الباراديغم؟
إن الباراديغم، حسب تعريف موران E.Morin، هو بناء نظري يوجّه الخطاب والبحث ورؤية العالم أو هو مجموع مبادئ التركيب والاقصاء الأساسية التي توجّه كلّ فكر وكلّ نظرية وكلّ رؤية للعالم. فالباراديغم يقتضي، إذن، فكرة مفاهيم رئيسية، فكرة ترابط ضروب علائقية منطقية قوية، إذ أن الباراديغم يقارب مشكل المبادئ الأولى في الخطابات وفي النظريات وفي أنساق التفكير، وهذه المبادئ الأولى يمكن أن تؤسس علاقات التقابل أو علاقات التمييز أو علاقات الجمع، مثال ذلك أن الفكر العلمي كان محكوما ببراديغم فصل عالم الموضوع على عالم الذات، فعالم الموضوع محكوم بشرط الصّرامة والمنطق والحساب في حين أن عالم الذات محكوم بالأحاسيس والانفعالات والعاطفة.
ويرى الفيلسوف الأمريكي "توماس سمويل كوهن" Thomas Samuel Kohen أنّ كلّ ثورة علمية تتحدّد بظهور براديغمات جديدة وهو ما يعني أن المعرفة العلمية تشتغل بالبراديغمات وأن تطوّر العلم لا يتحقق عبر تكديس المعارف ولكن بتحول في المبادئ المنظمة للمعرفة، أي تحوّل في البراديغمات وبالتالي فإن ولادة كل براديغم تُعلن تحوّلا في المشاكل المعلنة والمدروسة، تحولا مرفوقا بتغير قواعد الممارسة العلمية، كذلك كان الشأن عندما وقع استبدال الأرض بالشمس كمركز للعالم إذ تغيرت معه نظرتنا إلى العالم ومررنا من عقلانية أرسطية تفسر العالم تفسيرا أنتروبومورفيا كيفيا إلى عقلانية كمية تفسّر العالم بقوانين رياضية.
من هذا المنطلق يرى "جون لويس لوموانيو" J.L.Lemoigneأنّ العلوم الحديثة مثل النسقية La Systhemique وعلوم التنظيم والقرار وعلوم المعرفة والتواصل التي تطوّرت انطلاقا من 1948 سنة ميلاد السيبارنيتيقا La Cibernitique (علم التوجيه)، تقتضي تفكيرا ابستيملوجيا يراجع البراديغم الوضعي ذلك أنّ هذه العلوم الجديدة لا تتحدّد بموضوعها الذي يمكن ملاحظته وضعيا ولكن بمشاريعها المعرفية.
فهذه العلوم وخاصة منها علوم الاصطناعي لا تنظر إلى المعرفة باعتبارها يقول لومواينو:« اكتشاف أو انكشاف مواضيع طبيعية محدّدة، بل باعتبارها اختراعا أين يتمّ تصور الظواهر مكوّنة اصطناعيا وبطريقة حرة من قبل الباحث»، وهذا يعني أن علوم الاصطناعي لا تنظر إلى صلاحية قضاياها انطلاقا من مبادئ وضعية، فالوضعية لا تستطيع أن تؤسس هذه العلوم وأسس هذه العلوم يشبهها "لوموانيو" بأرخبيل علمي تمثل علوم الهندسة جزيرته الرئيسية، إذ تتقدم الابستيمولوجيا التكوّنية كأفق ممكن لتجاوز صعوبات العلوم الوضعية في تفسير المركب والفصل فيه بدقة، ومن هذا المنطلق يرى "لوموانيو" أن التكوّنية تمثل براديغم علمي محترم.
النموذج ليس البراديغم إذن. و النموذج الذي كان يعني في الأصل المرجع الذي سنقلده أو سنعيد إنتاجه بما هو المثال و تحوّل في مرحلة أولى ليفيد نتيجة هذا التقليد إذ نتحول من نموذج الفنان إلى التمثل الذي يحققه الفنان، أصبح اليوم مستعملا في العلوم ليشير لا إلى المثل الأعلى العلمي و لا إلى المُثل الأفلاطونية و لا إلى الصورة الحسية للنظرية المجرّدة ولا أيضا إلى المجاز أو المماثلة الرمزية بصورة خاصة وليس هو الشيء المصغّر، و إنما يشير إلى التمثل الذهني لشيء ما ولكيفية اشتغاله، إنه يقول "فاليزار"B.Walliser: "تمثل لشيء واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا يتمّ التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية".
وهذا يعني أن النموذج هو بنية مركبة تتفاعل فيها ثلاث أبعاد رئيسية، بعد تركيبي، وبعد دلالي، وبعد براغماتي أو تداولي. وعندما نضع شيئا ما في نموذج نستطيع أن نقلّد اصطناعيا تصرف هذا الشيء وبالتالي الاستعداد لردوده. وهو ما يتضمن أنّ النمذجة ليست إلا الفكر المنظّم لتحقيق غاية عملية، فالنموذج هو النظرية الموجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه، ذلك أنه أمام عجز المقاربات التحليلية على تفسير الظواهر الجديدة (الظواهر المركبة والمعقدة) حاول الباحثون المعاصرون إيجاد مناهج بحث تتلاءم مع هذه الظواهر، والنمذجة هي أحد هذه المناهج المعتمدة في هذا الاتجاه لذلك تقدم النمذجة باعتبارها فعل استراتيجي يتطلب مشاركة من الفاعلين. إنها شكل جديد من إبداع المعرفة تكون فيعه العلاقات بين النظرية والممارسة، بين البحث والفعل وثيقة جدا بما أنها بحوث تهدف إلى تغيير عبر التشكيل المتفاعل للفعل والخطاب، إنها تمشّي يُنتج معارف نظرية وعملية ويقتضي مسار تعاون بين باحثين وممارسين من اختصاصات مختلفة ممّا يؤدي إلى توسيع الإشكاليات وسبل حلولها الممكنة.
و هذا يعني أن النمذجة تسعى قبل كل شيء إلى فهم ما يحدث ذلك أن المنمذج لا يبحث فقط عن حل خبريEmpirique) ) يقول "باسكال نوفال" Pascal Nouvel «و لفهم شيء ما علينا أن نعمل أشياء كثيرة أخرى والنموذج هو التعبير عن مثل تلك العملية المراقبة للإهمال» ذلك أن النموذج في منظور "نوفال" يهدف أساسا، كوسيلة تبسيط، إلى الفهم فالمنذمج ينمذج ليفهم و ليُفْهِم. و بهذا المعنى فإن النموذج يمكن أن يكون قانونا رياضيا لذلك يعتبر "نوفال" أن قانون نيوتن F= m . a ) ) (ق = ك . س) ( القوة تساوي كمية الكتلة مضروبة في كمية التسارع) يمثل نموذجا. وبالتالي فإن النمذجة ليست إلا تواصلا مع تقليد علمي متجذر في التاريخ يتمثّل في الإقرار بكون العلم هو تفسير للمرئي المعقد باللامرئي البسيط و يتقدم النموذج باعتباره وسيلة هذا التبسيط بالنسبة لنوفال.
و هكذا فان النموذج هو نسق رموز يمكننا من استحضار اغلب الإدراكات التي نكونها عندما نريد وصف ظاهرة سواء مُلاحظة أو مُتخيلة، حتى نتمكن من تأويلها عقليا. وتطوّر مناهج البرمجيات المعلوماتية مكّن النمذجة من استثمار حقل الاصطناعات الأكثر اختلافا كما مكّنتها من بناء وتقييم المردود الزماكاني Spatiotemporel للظواهر المنمذجة، وهذا يعني أنه، أن ننمذج صيرورة ديناميكية، هو أن نصفها بطريقة علمية كمية بواسطة الرياضيات لأن ذلك يمكننا من دراسة تطوّر هذه الصيرورة الديناميكية ومن مراقبتها عبر اصطناع المتغيرات الممكنة وعبر استبدال بعض المتغيرات الأخرى. وبالتالي فإن النمذجة تهدف أساسا إلى:
*
تـأويج الفعالية Efficacité.
*
تأويج إمكانية الاشتغال Fiabilité.
*
التحكّم في المصاريف.
*
تأمين التحكم والمراقبة للظاهرة (المشروع).
فالنمذجة إذن تمكّن من الحصول على حلّ فعال وقابل للاشتغلال بما أنها تأخذ بعين الاعتبار كلّ المتغيرات وكلّ الحالات الممكنة، إذ يتعلق الأمر بالبحث عن الحلّ الأمثل الذي يكون بالضرورة أكثر فعالية من أيّ حلّ تقريبي، ولكن أيضا أفضل اشتغال بما أننا نعرف التأثيرات المتناسبة مع مختلف المتغيرات ونعرف بالتالي أي المتغيرات أهمّ وأيها ثانوي. وعندما ننمذج تكون لدينا وسائل كمية تمكننا من تحديد المتغيرات الأكثر أهمية وبالتالي من التحكم في مصاريف المشروع، فمثلا، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تأويج موضع المستودعات فإننا نضطر إلى دفع مصاريف تنقل أكثر. فالنمذجة تمكننا من التحكم في المشروع ومراقبته إذ نعرف ما يجب فعله ونعرف ما هو مهمّ فنتجنّب بذلك المفاجآت غير السارة.
وهكذا فإن المقاربة النسقية للنمذجة هي منهجية جديدة تمكّن من تجميع وتنظيم المعارف لتأويج النجاعة في الفعل وتقتضي دراسة المشكلات في كلّيتها وفي تعقدها وفي ديناميكيتها الخاصة لذلك تتأسس النمذجة على أكسومية اتصالية أو على بداهات علائقية تمكن من تجاوز عقبة الاختزالية التبسيطية المكبلة للمقاربات العلمية الوضعية، ذلك أن نظرية النسق العام تجعل من موضوع النمذجة مشروعا في محيط نشيط وتمكّن الباحثين من تمثل الظواهر القابلة للتحليل جزئيا أو كليا ومعرفة هذه الظواهر تمرّ عبر علاقة جدلية ثلاثية بين الوجود والفعل والصيرور.
يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله بطريقة صورية ودون عودة إلى التجربة إلاّ في المستوى الافتراضي أي وصف نسق واقعي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب، فالنمذجة هي إذن مبدأ أو تقنية تمكّن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي يمكّن من فهم الأنساق المركّبة والمعقدة عبر خلق نموذج هو بنية صورية تعيد إنتاج الواقع افتراضيا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية