الخصوصية والكونية

 الخصوصية والكونية

الآخر – الاختلاف – التواصل – الصورة- المقدس – الهوية

 ما الذي يبرّر التفكير في مسألة الخصوصية والكونية؟


يمكن القول أن التعامل الفلسفي مع إشكالية الخصوصية والكونية يستوجب منذ البدء توسيع مجال البحث الأنطولوجي في مسألة الإنية والغيرية إلي مجال أنثروبولوجي فنستبدل بذلك ثنائيــة ”الأنا“ و”الأنت“ بثنائية” النحن“ و”الهم“ طارحين بذلك علاقات الثقافات فيما بينها من جهة التوتر المنشئ لصراع الحضارات والتواتر الداعي لحوار الثقافات قصد تأسيس حد أدني من التواصل بين الملل والنحل في زمن عولمة الاقتصاد وعولمة الرمز وعولمة المشهد وعولمة النموذج الداعي دائما إلى تجاوز الخصوصيات واغتراب الهويات الشيء الذي دفع بالبعض إلى الإعلان المبكر عن نهاية التاريخ في حين ذهب البعض الآخر إلى إعلان بداية جديدة لتاريخ إنسان الهوية المركبة المتجاوز لنظريات التطور الكلاسيكية القائمة أساسا على رصد التحولات البيولوجية بطرح نظرية الطفرة الثقافية المنادية بكونية القيم وكونية المشهد العالمي الجديد لحضارة الإنسان كوحدة لكثرة مزعومة.
يقتضي التفكير في إشكاليات العلاقة بين الخصوصية والكونية منهجيا التساؤل عن دلالة الخصوصية ومقوّماتها.
تحيل الخصوصية على معنى الهوية، على ما هو جوهري وثابت وأصيل ومميز لمجتمع ما أو لأمة أو للنحن الثقافي، لكن هل ينبغي النظر إلى الهوية من جهة اعتبارها مقولة منطقية [منطق الهو الهو، أو الهو عينه] أم من جهة اعتبارها ما يتحقق تاريخيا وما تقتضيه التاريخية من حركة وتغاير وتحول وكسب؟ سؤال الثابت والمتحوّل يحيلنا على سؤال الهوية من جديد من جهة الحق ومن جهة الواقع، أعني هل هي كيان بسيط أم كيان مركب؟ بلغة أخرى هل ترد جذور الهوية إلى ثقافة واحدة منغلقة على ذاتها متأصلة في عمقها أم أنّ جذورها متعددة وأصالتها تستمد من أصالة انفتاحها وقدرتها على التأثر بالتاريخ والتأثير فيه من ناحية ومن قدرتها على الإبداع والتجديد من ناحية أخرى؟
 يتولّد عن التسليم بأن الهوية بسيطة أو جوهر بسيط، الدفاع عن الخصوصية، وباسم هذه الخصوصية ندافع عن انغلاق الهوية الثقافية على مختلف الثقافات، إذ باسم ذات الانغلاق ننظر إلى كلّ ما هو آت من ثقافة أخرى على أنّه غريب وغيرية تتهددنا، ينبغي رفضها وإقامة جدار عازل يحول دونها والتأثير فينا أو غزونا خشية تحوّلنا عمّا نحن عليه، أي خشية أن نفقد مقوماتنا فنفقد هويتنا أو نعيش أزمة هوية.
ولا شك أنّ من بين أهم استتباعات مثل هذا الموقف القائل بالانغلاق دفاعا عن الخصوصية رفض كلّ تواصل مع الآخر وإحلال العنف محلّه بما يعنيه من يأس من الإنساني أو ادعاء احتكاره وادعاء الأفضلية والاعتراف بضرب واحد من التعامل يحكمه منطق الصراع أو الصدام ويترجم عن قداسة الهوية وحيويتها وما تستوجبه من خوض مغامرة الحياة حفاظا عليها.
 أمّا إذا افترضنا الطابع المركّب للهوية أي هوية تتحدد على ضوء عوامل مختلفة ومتعددة، فإنّ الكونية قد تفهم بما هي أفق الخصوصية، فبأي معنى نفهم الكونية بما هي أفق للخصوصية؟ وهل يعني ذلك إمكان تجاوز القول بالكونية بما هي نفي للخصوصيات؟ لكن ما دلالة الكوني وما مشروعية القول بالكوني أو الدفاع عنه؟
يفترض الحديث عن الكوني التساؤل عن علاقته بالكلي؟
يمكننا المجازفة بالتمييز بين الكوني والكلي من جهة اعتبار الكلي ما يفيد المنطقي المعرفي أو الإبستيمي عموما، أما الكوني فيحيل على سجل قيمي.
لكن ألا يمكننا أن نقارب الكوني من نماذج تفكير مختلف كأن نقاربه من جهة الطبيعة ومن جهة الوظيفة؟ فعلى مستوى الطبيعة يحيل الكوني على ماهية ثابتة، على ما هو نوعي في الإنسان وعلى ما هو مشترك بين البشر، أو ما يوحد الجنس البشري.
أمّا على مستوى الوظيفة يمكننا أن نعتبر الفكر كما الكلام الوظيفة النوعية للإنسان أي مجال الكوني، دون أن ينفي هذا الذي نعتبره كونيا الخصوصية، فإذا كانت اللغة خاصية نوعية وكلية فإنّ الألسن متعددة، وإذا كان الفكر مجال الكلي فإن تفكيرنا مختلف وإذا كان الرمز مجال الكوني فإن الرموز تختلف صورها وتتعدد دلالتها، وإذا كان المقدس حاضرا في كلّ المجتمعات فإنّ صورته وفعله وفعاليته تختلف. وهو ما يحيلنا على النظر إلى الخصوصي بما هو فضاء الثقـافـات [الكثرة] أما الكوني فيحيل على فضاء الحضارة[الوحدة]، وأنّ الإنساني لا يستقيم ما لم نأخذ مأخذ الجدّ واقع الكثرة في الخصوصيات دون نفي الوحدة التي يعبر عنها الكوني.
على ضوء هذا القول ألا يبدو استشكال العلاقة بين الخصوصي والكوني مفتعلا ولا مبرر له؟ ألا تبدو العلاقة من البداهة بحيث لا تثير من جهة المفهوم إحراجا طالما أنّ علاقة الكل بالجزء والعام بالخاص، والوحدة بالكثرة علاقة تضمن بديهية، فلم إثارة مشكل يبدو لا وجود له إلا بصورة وهمية؟
يبدو أنّ الواقع الإنساني بما يتضمنه من تناقضات هو ما يثير مشكل العلاقة هذا. فالكوني من جهة الواقع ليس بمثل النقاء الذي نصوره من جهة المفهوم وهو ما يدفعنا لإثارة علاقة الكوني بالإيديولوجي وبالإيتيقي، فأي معنى للكوني إذا ما قاربناه إيديولوجيا؟ وأي معنى له في دلالته الإيتيقية؟
يفهم الكوني الإيديولوجي بما هو كوني هيمنة، هيمنة تتخذ من الكوني أداة لتحقيق الهيمنة، ليتحرك الكوني بذلك ضمن أفق العقل الأداتي، أو الحسابي، أفق المصلحة بدل الحقيقة أفق النجاعة بدل القيم، وهو ما يتجلّى واقعا، في العولمة التي تبشر بالوحدة على حساب الكثرة، وباسم الوحدة تتلف الخصوصيات، وهو ما يؤشر على أزمة تواصل، إذ بقدر ما تشتد أساليب الهيمنة العولمية أو الكوني العولمي بقدر ما تشتد مقاومة الخصوصيات وتشتد مبررات انغلاقها، ليتحوّل الدفاع عن الخصوصية مواجهة للهيمنة، بما تعنيه المواجهة من سيادة منطق الصراع والصدام، وغلبة منطق القوة واللامعقول، وحلول لغة العنف بدل لغة الحوار، ألا ينبغي أن يفهم من هذا أنّ الدفاع عن الخصوصية لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني وإنما رفض الكوني الهيمني أو كوني الموت دفاعا عن كوني الحياة أو كوني كلية الإنسان ووجوده النوعي؟
يفهم كوني الحياة بما هو كوني مبدع خلاّق منفتح تميزه قوى الفعل لا قوى الانفعال أو هو كوني إيتيقي، ألا يحيلنا الزوج فعل/انفعال إلى رفض منطق الانغلاق؟ فالثقافة الميتة هي التي تخشى الالتقاء بالآخر والتفاعل معه، أما الثقافة الحية فهي التي تملك القدرة على اللقاء بالآخر دون أن يكون هذا اللقاء قاتلا. أليس الكوني في معناه الإيتيقي ما به نعيش على حدة [خصوصية] ومعا [كونية]؟ أليس كوني الحياة هو أن يحافظ كلّ منا على خصوصيته دون نفي للآخر ونفي حقه في أن يعيش خصوصيته؟ ودون رفض الوقوف على أرض مشتركة قوامها قيم كونية ينبغي احترامها والدفاع عنها [الكرامة الإنسانية] ومشاكل كونية تجمع الإنسانية في همّ واحد ومصير واحد؟
قد تختلف صور الثقافات، وقد تتعدد نظم عيشها، وهو تعدد لا يشرع لأحد الحكم على الآخر بالوحشية أو التخلف أو إعدام حقه في الاختلاف؟ تعدد يدفعنا إلى النظر إلى الاختلاف بما هو علامة ثراء لنبقيه اختلافا نستمد منه ما به ومن أجله نتواصل شريطة التمييز بين فعل تواصلي وآخر استراتيجي، تمييزا يصب في اتجاه إنقاذ الكوني من الكوني أو إنقاذ أنفسنا من كوني طلبا للكوني.
لكن قبل ذلك ونظرا لخصوصية المسألة، يجب التسلح وكما يقول غاستون باشلار ب «حاسة وضع الأسئلة» -
فماذا نعني بمفهوم الثقافة؟ وماهي خصوصية الخصوصية؟ وأية هوية يمكن رصدها لمفهوم الهوية؟ وما هو وضع الهوية بين التقوقع والانفتاح؟ وهل أن الكونية تحقيق للخصوصية أم طمس لها؟ وماهي رهانات الكونية؟

1-الخصوصية بين المطلق والنسبي:


    ليست الخصوصية شيئا آخر غير التميز عن الآخر والاٍتصاف بالتالي بملامح ذاتية تختلف عنه هذا عامة أما قيميا فتعني الوعي بالذات من حيث إدراكها   لتميزها وحدودها الزمانية والمكانية والحضارية.
أنثروبولوجيا لكل جماعة خصوصيتها من حيث العرق والثقافة فالتنوع في الثقافات إنما هو في الأصل دلالات على تميز الخصوصيات ليشكل بالنسبة للإنسانية " غنما لا غرما " على حد عبارة كلود ليفي شتراوس.
إن التفكير في أمر الخصوصية فلسفيا يفرض منذ البدء الانتباه إلى مشكل قد يعيق التفكير السليم فيها، وهو أن يتحيز المفهوم للذات المفكرة فيه على هذا الأساس يكون لزاما التفكير في الخصوصيات بعقل كوني متنزه عن الاٍستهجان والتعالوية أو التفخيم والدونية طالما أن "البربري هو قبل كل شيء الإنسان الذي يعتقد بوجود البربرية" كما يؤكد شتراوس.
على هذا الاعتبار سنفكر فصلا وتفكيكا علنا بهذا الأسلوب الحجاجي نستوفي ما أراد تأكيده جون لوك في " الهوية الشخصية " أولا وما جاء به اٍدغار موران في " الهوية المركبة " ثانيا. 

  أ -  الهوية أساس الخصوصية: 

تتعدد دلالات الهوية وتختلف وهو ما يجعل الإمساك بها أمرا عصيا فقد مثلت الهوية إلى حد هيغل أمارة دالة على ذات مؤمنة بذاتها مقصية لكل ما هو مغاير وقد جسدها الكوجيتو الديكارتي بجدية ليؤكد أن الذات قادرة على تعقل ذاتها بمعزل عن كل سند خارجي لكن هذه التعالوية سرعان ما تهاوت منذ هيجل وبعده ليقع التشديد على الكثرة والتعدد والاختلاف إلا أن للهوية دلالات أخرى قد تكون ثقافية أو جغرافية أو دينية بل يمكن الحديث عن هوية شخصية أصلا وذاك هو رهان كتاب " الهوية والاٍختلاف " لجون لوك الذي جاء ليدلل على أن الإنسان هو هو رغم التغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه فكيف كان جواب لوك عن سؤال فيما تتمثل الهوية الشخصية؟ وما معنى أن يتوافق الفكر والإحساس في تعينها وما مقصوده من التأكيد على ثبات الهوية؟
يميز جون لوك بين ثلاثة أنماط من المعارف:
     ـ   معرفة حسية: تأتي من الأشياء الجزئية ومن الخارج.
-          معرفة برهانيه: تحتاج إلى الاٍستدلال والحجاج.
-          معرفة حدسية: إنها معرفة مباشرة للعقل دون وسائط وهي أصدق أنواع المعرفة فطريقها الإحساس والتأمل ولا نحتاج فيها إلى برهان.
إن معرفتنا لوجودنا الخاص مأتاه هذه المعرفة الثالثة طالما أنه أمر حدسي فنحن " ندركه بدرجة من الوضوح واليقين بحيث لا يحتاج إلى برهان " هكذا هو أمر الهوية الشخصية.
قد لا ندرك دلالة الهوية الشخصية إلا بالعودة إلى لفظ الشخص وتعرف ملامح الشخص أساسا بالفكر والذكاء وقدرته على التعقل والتأمل فللشخص قدرة على معرفة ذاته من حيث هو هو إذ أن من يدرك يدرك بالضرورة أنه يدرك وبالتالي فالتعقل إنما هو وعي بفاعلية العقل عند الإنسان الذي لا يقصي تلك المدركات الحسية فالشخص هو ذاك الكائن الذي يحس ويتذكر بل يؤكد لوك أنه الذي يشم ويتذوق.
إن الهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي وعندما يتعلق الأمر بالماضي يستحيل الوعي اٍلى ذاكرة وتستمر الشخصية طالما كان الوعي مستمرا.
إن ادراكاتنا متولدة من انطباعاتنا إذ و" لكي تكون فكرة واقعية، فلا بد لها أن تشتق من انطباع حسي ما ". إن هذا الاٍنطباع مطالب بأن يتصف بما يتصف به الشخص من ثبات واستمرارية في آن.
يراهن جون لوك على محاصرة هذا الجوهر من أجل أن يميز بين الشخص والإنسان فالثاني أكثر شمول بل في الشخص ومعه نكون إزاء ما هو متعين، معلوم، متفردا أما حديثنا عن الإنسان لمن الإطلاق ما يجعله ملغزا.
واضح إذا أن الخصوصية تفهم في قاموس " جون لوك " في محافظة الشخص عن تميزه وفرادته ووحدته رغم شتى ضروب التجارب التي يخوضها الإنسان، هنا يكون الإقرار ب " الذات عينها " من حيث هي تشديد على الشيء في ذاته ولذاته.

ب- الهوية من الانغلاق إلى الانفتاح:

-   بارميندس: إن الوجود موجود والموجودات غير موجودة.
ـ  هيرقليطس: إن الوجود غير موجود والموجدات موجـــودة.

   لعل الخروج من الوحدة البارمنيدية إلى تدفق النهر الهرقليطي أصبح ضرورة ملحة، هنا سنشرع لأهمية الوصل كبديل عن الفصل وبالتالي سنشرع للخروج من المطلق إلى النسبي بل قل من الاٍنغلاق إلى الاٍنفتاح ومن ضيق الهوية إلى إتساعية الاختلاف، هنا سيفكر اٍدغار موران في كتابه " سياسة حضارة " ليؤكد على ضرورة تأسيس هوية مركبة ينتجها التلاقح رغم تعدد المنابع.
   واضحة هي مقاصد إدغار موران من قوله " إن العقول العاجزة عن تصور وحدة الكثرة وكثرة الواحد لا تقدر على الرفع من شأن الوحدة التي تولّد التجانس أو الرفع من شأن الكثرة التي تنغلق على نفسها " لكن بدءا من هم أصحاب العقول العاجزة؟ إنهم المنشدين إلى التطابق والتماثل أي التجانس بحيث يكون الشيء هو هو ولا شيء غير هو، كذلك هم المقرين بالكثرة في حد ذاتها لا من حيث هي نتيجة لجملة من الوحدات بل كثرة شاملة، إن هذه الكثرة غير المعترفة بالآخر مآلها للانغلاق.
إن مطلوب ادغار موران هو الخروج من الهوية المتطابقة إلى "الهوية المركبة" هنا يكون الخروج حقا من الوحدة في حد ذاتها أو الكثرة المنغلقة اٍلى وحدة الكثرة وكثرة الواحد. هنا يكون التشريع للقاء ممكنا والحديث عن التلاقح مالكا للمعنى.
يفهم التلاقح ههنا على أنه الإيمان بالأرضية المشتركة للعيش معا جنبا اٍلى جنب بعيدا عن صلف الكبرياء من ناحية وعقدة النقـص من ناحية ثانية وهو أمر لا يكون ممكنا إلا بإحلال التلاقح والتنوع محل التجانس والاٍنغلاق.
إن التعايش الحكيم في إطار " الهوية المركبة" يفهم على أنه الحفاظ على الخصوصية مراعاة لتنوع الثقافات أولا ومن أجل تطوير الوحدة الثقافـــــية ثانيا، هنا يتأصل الحوار بديلا عن العنف والسلم بديلا عن الحرب والإقناع بديلا عن التعصب، فالخصوصية محتاجة بالضرورة لأنها شبيهة بقطرة الماء إذا ما رغبت عن الاٍرتباط بالمحيط فإنها ستجف لا محالة بحسب مماثلة غاندي: " إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتى وإن لم تكن تعي ذلك، لكن بمجرد أن ترغب في الانفصال تجف تماما ".
     إن لقاء الإنسان بالإنسان والثقافة بالثقافة والحضارة بالحضارة أمور مشروطة بالاعتراف كأساس والإيمان بالاٍختلاف كقاعدة ايتيقية والرغبة في الإبداع كغاية أولى وبلوغ الكلي كغاية قصوى هنا تحديدا يكون للإنساني معنى.
لنا أن نميز مع ادغار موران بين هوية ثقافية متعددة المنابع وهوية ثقافية متلاقحة فالأولي إنما تؤسس تماسكها من ماض متعدد الروافد عرقا ودينا وفنا وعلما الخ. أما الثانية فتعني انفتاح هوية ثقافية ما في لحظة معينة على تجارب أخرى تزداد بها ثراء وتماسكا.
واضح إذا أن الهوية المركبة هي بمثابة البديل الاٍيتيقي لحالة التعصب والهيمنة في آن، فلا الخصوصية ـ الهوية الثقافية ـ بقادرة لوحدها على الصمود الأبدي ولا بالنزعات الاٍستعمارية المتسترة بالقيم والكونية بمنأى عن افتضاح أمرها، وكثيرة هي شواهد التاريخ المؤكدة على موت هويات لأنها انغلقت وتهاوى حضارات لأنها أقيمت على الهيمنة.
لكن ما نقوله لإدغار موران نقدا: إن "الهوية المركبة" اليوم أضحت تركب دون إذن من أهلها، خصوصا أمام الثورة المعلوماتية المعاصرة من ناحية والعولمة الغازية من ناحية أخرى، فالأبواب تفتح دون إذن والهويات تنتهك دون إشعار.

     2 -  مفهوم الثقافة:

يعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم اللصيقة لمفهوم الإنسان نظرا لأنه الكائن الوحيد من بين بقية الكائنات الذي استطاع تحوير وجوده الطبيعي وترجمته إلى وجود رمزي عن طريق ابتداعه للغة والفن والدين والأسطورة والى وجود اصطناعي قائم على منظومة الأدوات التي استعملها الإنسان البدائي وطورها الإنسان المعاصر تأقلما مع منطق الحاجة التي هي أم الاختراع فحاجة الإنسان البدائي إلى التوقي من حر الصيف وقر الشتاء مثلا هي التي كانت وراء ابتداعه للباس الذي اختلف من ثقافة إلى أخرى  ،لذلك يمكن فهم هذا المصطلح على انه كل إضافة قام بها الإنسان للطبيعة وكل مجهود رمزي أو جمالي أو معرفي أو تقني حاول به الإنسان التواصل مع الآخرين أو تطوير وجوده البدائي من الوحشية إلى المدنية والحضارة عبر التاريخ .غير أن الإنسان لم يعرف ثقافة وحيدة وكل ثقافة لأي شعب من الشعوب مهما كانت درجة تأخره أو تقدمه ما تنفك تتطور إما بفعل داخلي نابع من تجارب الشعوب أو بفعل خارجي قائم أساسا على مبدأ المثاقفة الذي هو تأثر الثقافات فيما بينها ؛غير أن اكتشاف نظرية المثاقفة لم يتبلور بشكل جدي إلا في القرن التاسع عشر مع نشأة علوم بأسرها قامت أساسا للبحث في الثقافات ولدراسة الاختلافات بين الشعوب مثل الإتنولوجيا والإتنوغرافيا والأنثروپولوجيا .

3 – الثقافة والخصوصية:


إذا ما اعتمدنا تعريف الثقافة الذي صاغه إدوارد بيرنات تايلور[Edward  burnett  Tylor] في كتابه ”الحضارة البدائية“ الصادر سنة 1871 الذي يعتبرها «هذا الكل المعقد الذي يحتوي على المعارف والاعتقادات والفن والأخلاق والقانون والتقاليد وكل الاستعدادات والعادات التي يكتسبها الإنسان بما هو عضو داخل مجتمع…» يمكن أن نعرف الثقافة بأنها خصوصية الفرد وخصوصية المجتمع الذي ينسب إليها باعتبار أن الخصوصية من حيث الاصطلاح هي التميز عن البقية أي التفرد بشيء لا يمتلكه الآخرون فاللغة مثلا أو اللهجة أو الانتساب الديني أو الممارسات الطقوسية أو عادات بعض المجتمعات وآدابهم هي بمثابة أنظمة رمزية لا توجد إلا لديهم  لذلك تعتبر خصوصيتهم الخاصة بهم وهويتهم الثقافية التي توارثها ذلك المجتمع وساهم في ابتداعها وتطويرها تاريخيا، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نكتشف أن الخصوصية كانتساب رمزي متعدد الأبعاد لمدونة ثقافية معينة هي امتداد لهوية الفرد التي لم تعد تفهم فهما سطحيا متعلقا بالتثبت إن كان اسمه مستعارا أم حقيقيا بل أصبح هاجس البحث عن الهوية هو هاجس التنقيب الجاد عن الجذور الحضارية والانتماءات الرمزية الكامنة بطريقة لاواعية في الخلفية الثقافية للفرد .غير أن مبحث الخصوصيات وهاجس الهويات الإتنية قد تحول في بداية القرن العشرين إلى مبحث استعماري عنصري قائم على التفرقة بين الأعراق وافتراض أفضلية شعوب على شعوب أخرى بسبب الخصوصيات المختلفة والهويات الهجينة  ونذكر على سبيل المثال الحملات النازية التي سعت إلى تنقية الجنس الآري وشن حملات إقصاء وتهميش استهدفت الآخر وعملت على إبادته فهل يشرع الاختلاف الثقافي والانتماء الحضاري المتباين  إقصاء الخصوصيات الأخرى؟  هل يحق لبعض التصورات الدفاع عن مشروع الإتنية المركزية أم أن هذه الأفكار لا تعد إلا أوهاما سياسية واختيارات إيديولوجية لم تفهم بعد الهوية الحقيقية للهويات التي هي في واقع الأمر هويات مركبة وخصوصيات مستلهمة من نماذج بيثقافية متباينة ومستندة إلى نفس البنى المنطقية تقريبا؟

4 -الهوية الثقافية بين الكثرة والوحدة:


يعتقد البعض أن الخصوصية بما هي مكون من  مكونات الهوية الفردية أو الجماعية  هي معطى ثابت لا يتغير وغير قابل للتطور وذلك بفهم الهوية استنادا لظرفية زمكانية وتاريخية واجتماعية أي بالنظر إليها ضمن وضعية معينه غالبا ما تكون قابلة للتغير بمرور الزمن وبفعل العديد من المؤثرات  فهوية الطفل مثلا تتغير بتغير سنه من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب إلى الكهولة ثم إلى الشيخوخة كما يمكن أن تتغير بتغير مستواه العلمي من الأمية إلى المعرفة التي هي بدورها تتغير بتغير درجاتها والهوية المنتسبة إلى انتماء رمزي أو إيديولوجي معين يمكن أن تتغير بتغير معتقدات أصحابها وكذلك الشأن بالنسبة للهويات الثقافية التي يمكن أن تتجاوز الإطار البسيط لها لتصبح هوية مركبة على حد تعبير إدغار موران، وذلك بفعل الانفتاح على الثقافات الأخرى واستيراد أنماط سلوكية وفكرية ورمزية مختلفة عن الهوية الأم لذلك دأب علماء الأنثروبولوجيا على دراسة التفاعل الثقافي والحضاري بين الشعوب ورصد انتشار الثقافات أو بعض الأنظمة الخصوصية على مستوى كوني ؛ومن رواد هذه المدرسة الانتشارية [le diffusionnisme] نذكر الباحث الأمريكي ذو الأصل الألماني ” فرانز بواس“ [Franz boas](1942-1858) الذي قام بالعديد من البعثات الأنثروبولوجية الدارسة للعلاقات الممكنة بين الثقافات لعل أهمها : بعثة شمال المحيط الهادي [jesup north pacifique] التي اكتشف خلالها وجود علاقات ثقافية بين ثقافات شمال آسيا  وثقافات الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية على مستوى اللباس والطقوس والعادات والطباع المشتركة وضمن محاولته تحليل ذلك اعد المسالة إلى التجاور الجغرافي الذي يجعل من اللقاء الثقافي أمرا ممكنا وحتميا الشيء الذي يكون وراء استيراد وتصدير الخصوصية الثقافية لكلا الشعبين، وإذا قمنا بتعميم الظاهرة تصبح المسألة مؤدية إلى القول بأن كل ثقافة هي في الأخير مزيج لعديد من الثقافات التي أثرت فيها تاريخيا الشيء الذي جعله يكتشف مفهوم النسبية الثقافية ويرفض الأفكار المنادية بالإثنية المركزية القائلة بأفضلية عرق على عرق آخر وبحضارة على حضارة أخرى…
لقد حاول هذا الباحث اكتشاف الكثرة ضمن الوحدة الظاهرة للثقافات فكانت أعماله ملهمة للعديد من الدراسات الإنسانية مثل اللسانيات التي حاولت دراسة كيفية دخول مصطلحات ثقافة ضمن ثقافة أخرى وعمليات استيراد المفاهيم والتمفصلات اللغوية التي يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى ابتداع أنظمة لغوية جديدة واشتقاق لسان من لسان آخر.
غير أن أعمال كلود ليفي-شتراوس[Claude Lévi-Strauss] قد حاولت النظر إلى المسألة من منظور آخر باحث في ما هو مشترك بين الثقافات وما يمكن أن يؤسس وحدة إنسانية تكون قاسما مشتركا لجميع الثقافات مهما اختلف مستوى تحضرها ومستوى عقلانيتها وطبيعة وعيها سواء كان وعيا إحيائيا يحاول رؤية العالم رؤية أسطورية أنثروبومورفية (نزعة تعطي خصائصا إنسانية للظواهر الطبيعية) أو وعيا علميا متوسلا بالتقنية وبآخر مستجدات الاكتشافات العلمية؛هذا وقد استلهم هذا الأخير منهج الأنثروبولوجيا البنيوية من ما توصلت إليه اللسانيات من خلال تطبيقها للمنهج البنيوي الدارس للبنى التي تحكم اللغات وللهياكل المشتركة بينها مثل اشتراك جميع اللغات في البنية النحوية والصرفية والتركيبية وان اختلفت الألسن ،لذلك كانت أعماله عبارة عن حفر في الأسس الخلفية للثقافات ضمن الاشتغال على بنى معينة مثل القرابة والأسطورة وقد أدت دراساته الإثنوغرافية على قبائل” ماتو ڤروسو“[mato grosso] وقبائل الأمازون والدراسات التي أجراها على هنود البرازيل وخاصة على أنظمة القرابة وعلى ظاهرة زواج المحارم[l'inceste] إلى اكتشاف أن هذا النوع من الزواج يكاد يكون منعدما في جميع الثقافات تقريبا باستثناء الأسرة الفرعونية في مصر القديمة حيث كان الفراعنة يقبلون بذلك حفاظا على نقاء الدم الملكي المنحدر حسب اعتقادهم من أصل إلهي ؛  كما أدت دراسته للبنى الأسطورية بين شعوب العالم إلى اكتشاف علاقة التمثلات الأسطورية في جميع الثقافات بالبنى الواقعية الاجتماعية حيث نجد مثلا اعتماد الأماكن الموجودة في الرقعة التي ينتمي إليها الشعب وأسماء الأشخاص والتراتبية الاجتماعية المحلية في كل الأساطير تقريبا الشيء الذي يعكس أن البدائي يفكر بنفس طريقة المتحضر وما الفرق بينهما إلا فرقا في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بكليهما وأسهمت في ترقي المتحضر وبقاء البدائي في نفس المرتبة لذلك أكد في كتاب ”العرق والتاريخ“ رفضه للنظريات العنصرية مثل نظرية” ڤوبينو“ القائلة بضرورة التمييز بين الأعراق مثبتا أن لا شيء في العلم المعاصر يمكن أن يؤكد أفضلية عرق على آخر أو أفضلية ثقافة على أخرى بل كان إسهام الثقافات البدائية واضحا في إثراء المخزون الإنساني للشعوب  .
إن أطروحة كلود ليـڥي-شتراوس هي بمثابة البحث في الميتا-ثقافة أو في اللاوعي الثقافي إذا ما شرعنا لأنفسنا إستيراد المفهوم اليونڤي الدارس لللاوعي الجمعي ولأنها كذلك فقد كانت محاولة جادة في رصد ما هو كوني بين الثقافات وان كان كونيا ضمنيا أي كونيا غير مرئي أي غير واضح المعالم وغير جلي في حد ذاته إلا بضرب من ضروب التأويل والتخصص العلمي الشيء الذي يشرع لنا للتساؤل عن إمكانية تحقق الكوني الفعلي  وعن مدى واقعه وآفاقه وحدوده غير أن التساؤل بشأن الكوني هو في الواقع تساؤل بشأن التواصل والأنظمة الرمزية لا لشيء إلا لأن الكونية هي في أكثر معانيها حميمية تعني الإمتداد الزمكاني  واللانهائية والتداخل لأنظمة الوحدة ضمن كثرة ممكنة تداخل العناصر الأربعة –كما بينا ذلك منذ بدء المبحث – لتشكيل الكون ومنها التكون ·

5-الإختلاف الثقافي وصدام الحضارات:


يعتبر سؤال الاختلاف هو سؤال الخصوصية عن جدارة، التي لا تكون كذلك إلا باكتشاف المختلف والمنتمي إلى سجل هويات أخرى ،غير أن الاختلاف قد يشمل سجلات ومجالات يمكن أن تحول الاختلاف- الذي يعني التنوع- إلى خلاف حقيقي يجعل التقاء الثقافات غير ممكن ويحول الرغبة في الكونية إلى استعمار فكري وإيديولوجي يجعل من المشهد العالمي صدامي وصراعي ،وضمن هذا الأفق المتوتر اشتغل العديد من مفكري ما بعد الحداثة الذين من بينهم صاموئيل هنتنڤتون[Samuel p. huntington]الذي حاول أن يبين خاصة في كتابه: «صِدام الحضارات»[ le choc des civilisations] الصفة السلبية للكونية بماهي قتل وطمس للخصوصيات حيث اشتغل على علاقة الحضارة الغربية بغيرها من الحضارات وحاول نقد العقل الغربي الذي يسعي إلى فرض السيطرة الاقتصادية والسياسية على الحضارات اللا-غربية هذه السيطرة التي تحولت فيما بعد إلى سيطرة ثقافية قائمة على طمس الهويات والانتماءات الرمزية وذلك استنادا إلى محاولة تصدير الفكر الحداثي المنادي بالتحرر الفكري والديني السياسي إلى الثقافات الأخرى ،وذلك ضمن محاولة تأسيس مشروع كوني يريد امتصاص الخصوصيات ضمن فكرة ”الحضارة العالمية“ التي تسعى إلى التعامل مع الإنسان وفق المقاييس الأخلاقية الغربية الشيء الذي كان سببا في وجود ردات فعل صداميه من الخارج عن طريق المدافعين عن الهويات الدينية والخصوصيات القومية ومن الداخل عن طريق مجابهة المهاجرين والأقليات العرقية الموجودة في أوروبا وأمريكا للممارسات التي قد تتخذ طابعا عنصريا أحيانا ضدهم يكون مستهدفا لرموزهم الثقافية ولديانتهم ولانتماءاتهم الفكرية المختلفة ·
وكنتيجة لتحليل هذه الفكرة يعتبر هنتنڤتون أن التنازل عن الخصوصيات الثقافية لبعض الشعوب لن يكون بالسهولة التي يتصورها الغرب بل إن المقاومة للغربنة[l'occidentalisme] والتشبث بالهوية قد يصل إلى حد استعمال العنف إذا ما تعلق الأمر بالمساس بالمقدسات خاصة، لذلك لا يمكن تجاوز صراع المطلقات الذي يعبر عنه ماكس ڥـيبر بحرب الآلهة[la guerre des dieux] إلا بالتحاور مع الآخرين قصد إيجاد ما يمكن أن يكون مشتركا بين الجميع أو عن طريق فسح المجال لجميع الخطابات للتعبير عن رأيها ومعتقداتها بكل حرية وبدون أي تحفظ سياسي أو عرقي أو إيديولوجي  وبهذه الطريقة يمكن إيجاد نظام عالمي يؤسس للتعايش السلمي بين الحضارات·
إن نظرية هنتڤتون وإن بدت إنسانوية في نهاية التحليل من خلال طرحه للحل السلمي الذي يمكن أن يستنقذ الاختلافات  الثقافية عن طريق حوار الثقافات فانه في الواقع حل سياسي يريد إستنقاذ الحضارة الغربية وتحديدا انتماءه الأمريكي من العنف الذي قد يتولد من جراء مقاومة القيم الدخيلة على الثقافات الأخرى وتأثيرات ذلك على السياسة الأمريكية وعلى مصالحها الاقتصادية فيما بعد نظرا لأن المختصين في العلوم الحضارية يعرفون مفهوم الحضارة العالمية بأنه آخر مرحلة يمكن أن تصل إليها ثقافة ما حيث أن الثقافات تنشأ ضمن إطار ضيق ثم تتطور ضمن اتجاه داخلي ينتج ثقافات فرعية محلية وضمن اتجاه خارجي يسعى إلى تصدير الثقافة المحلية نحو ثقافات أخرى ثم إلى تدويلها لتتحول إلى ثقافة عالمية ثم تتطور هذه الثقافة العالمية لتصبح حضارة عالمية غير أن قانون الحضارات العام يقر بأن كل حضارة تبلغ أشدها ثم تتفكك وتندثر…

6الكوني مطلب إنساني: 

 ـ1 ـ   في الوعي بشروط الكوني:


ليس شأن الفلسفة إن تقتات من الواقع إنها تصوغه وتفهمه لتقوله بامتياز لذلك هي تأتي دائما متأخرة إنها تكشف "بعد أن يكتمل الواقع مسار تكونه ويأتي على نهايته " هكذا يؤكد هيقل ولكن، في زمن النهايات تحتاج الفلسفة أن تفكر في البدايات وعندما يعلن المركز صلفه وجبروته ليس لها إلا أن تصحح المسار فغرضها
إيتيقي ومسارها إنساني من هنا جاءت العودة ومن جديد للتفكير في الكوني لا لأنها علّقت التفكير فيه بل هي تستأنف التفكير لبروز مفاهيم جديدة تتجمل بالمساحيق لتعوضه حتى يظهر الإنسان المعولم على أنه الإنسان الكوني النموذجي.
إن الكوني فلسفيا شيء آخر مغاير تماما إنه بالسلب ليس العولمة التي نقلتنا من "دعه يعمل" إلى "دعه يربح" بل الكوني مطلوبه " دعه يعيش " هنا يستحيل الكوني مطلبا ملحا وأفقا إنسانيا هو من الضرورة ما يجعل غيابه إعداما لإنسانية الإنسان أولا وهدما لكل القيم الأخلاقية ثانيا.
     لعلنا لا نتعرف على الكوني حقا إلا متى فكرنا في ملامح المثقف القادر على إحلاله بديلا لراهن لا يتجسد فيه هذا المطلب اٍلا من حيث هو دال دون مدلول.
حدد هيغل في كتابه " العقل في التاريخ " سمات المثقف الكوني.
-          انه من يحسن ختم أفعاله ببصمة الكلية.
-          انه من تخلى على خصوصيته.
-          انه من يتصرف وفق مبادئ كلية.
-          انه من لا يتصرف وفق ميولا ته ورغباته.
إن من أدرك هكذا خصال أمكنه التعود على حياة التأمل فعرف المهم والمفيد وعزل الظرفي والمظهر بل بذلك يبلغ عملية التجريد بما هي السمة المميزة للمثقف الكوني.
    إن هيغل وهو يرسم ملامح هذا المثقف الكوني وجدناه يميزه عن" الجاهل" الذي استغرقه الآني والظرفي والمظهر فهو وإن تمكن من " استيعاب السمة الأساسية لشيء ما في الوقت الذي يحرّف فيه عشرات السمات الأخرى "
إن المثقف الكوني هو من تصرف وفق أهداف كلية، فقهر الذاتي وتجاوز الخاص وتملص من الأهواء وتغلب على النزوات، إنه من كان فعله لا لنفسه بل للآخرين ولعلنا هنا نقترب من كانط حين ميز بين الأمر القطعي أي الواجب من أجل الواجب والأمر الشرطي أي الواجب خوفا من الواجب في قوله " افعل فقط طبقا للمبدأ الذاتي الذي يجعلك تقدر على أن تريد له في الوقت نفسه أن يصير قانونا كليا ".
إذا متى يمكن أن نقول إن فعلا ما بلغ الكلية؟ انه متى كان قطعيا فالكوني من هنا ايتيقي أو لا يكون بل لا معنى له إذا لم يكن إنسانيا لأنه عمق الإنسان وحقيقته أو لم يقل مالبرانش في كتابه " إضاءات حول البحث عن الحقيقة ": "إن العقل الذي نستشيره حين نتأمل في أعماق أنفسنا هو عقل كوني " وفي الكتاب تأكيد على أن التأمل لا الانفعال هو الطريق الأسلم نحو الكونية.
إن الكونية إذا مشروطة وقد تكشفت الشروط مع هيجل وكانط ولكن بأي معنى تكون حاجة أمن جهة كونها ضرورة ثقافية أم من حيث هي استكمالا لمنقوص أنطولوجي؟ 

ـ   الكوني ضرورة ثقافية:

" علينا أن نوسع من محتوى الأنا أفكر الديكارتي " هكذا أعلن هوسرل وهو يؤسس البناء الظاهراتي فإذا ما كان الوعي عند ديكارت من الأنا والى الأنا فإن الوعي عند هوسرل سيعطي للآخر قيمة " فكل حاله وعي هي وعي بشيء ما "، فالقصدية تؤمن بالتضايف وتعطي للآخر المغاير حق الوجود لأننا وبه نستكمل ماهيتنا فالانا محتاج بالضرورة لآخر يدعمه ويحاوره على هذا الأساس سيتأصل الاٍنفتاح ظاهراتيا لتصبح الكونية حاجة ثقافية فالآثار الثقافية بدءا بالموناليزا مرورا بالآثار وصولا إلى السلوكيات قادرة على أن تخترق الخصوصي لتعبر عما هو إنساني كوني، هنا تساءل مرلوبنتي  ما دلالة الحضارة؟ وكيف للانا أن تتحول اٍلى نحن ثقافية؟ وكيف يستحيل التعايش في إطار التنوع علامة دالة على الكوني كأفق إنساني؟

   يتأكد مع ميرلوبنتي أن الآثار وسيط بين الماضي والحاضر بل بها يكون الاٍرتقاء من الخصوصي اٍلى الكوني ، فالآثار علامات دالة على حضور العقل باٍمتياز في لحظة تاريخية ما،  لذا نرى أن العالم الثقافي غامض إلا انه حاضر بعد، هنا قد نكون في حاجة اٍلى الأبحاث الأنثروبولوجية لتوضح لنا هذه المفارقــــة  ف"التقدم الذي أنجزته الإنسانية – يقول كلود ليفي شتراوس – منذ وجودها ظاهر وواضح"  إن ما يجعل الشعوب حاضرة رغم غيابها هو ما خلدت  سواء كان التخليد ظاهرا – مواعين  آثار، كتب... – أو باطني من حيث كونها عدلت مسارا وأسهمت في بناء آخر فحقبة الحجر المشطوب أو المسمى بالعصر الحجري مازال إلى اللحظة نقطة دالة في التاريخ الإنساني وهو ما يدل ان المنجز كان في لحظته خصوصيا أما الآن فانه ملك إنساني كوني.
إن ما يصح على الثقافات يصح أيضا على الأعراق هكذا يرى كلود ليفي شتراوس المراهن على فكرة " تحالف الثقافات " الذي يسمح لكل ثقافة بالتفاعل مع الأخرى دون أن تفقد خصوصيتها.
    إن الكوني مطلب تدعمه مآثر الإنسان الثقافية وهنا قد تلعب الأنظمة الرمزية، وبخاصة الفن دورا أساسيا في إبراز الطابع الكوني للحضارة والثقافة الاٍنسانيتين يقول هيجل "إن أمما بأسرها لم يتيسر لها التعبير عن عقائدها وعن أشد حاجاتها تجذّرا إلا بما شيدت من معالم".
     إن عظمة الآثار تكمن في صمودها وقدرتها على تأبيد الماضي  لتجعل حضوره في الحاضر دائما وإن كان فكرة متسترة إلا أنه دليل على أن الأنا ،نحن والثقافة ثقافات على اعتبار أن للانا تجربة ووعي عن ذاك الوسط الثقافي الذي خلقه وعن السلوكيات التي تتناسب معه وهنا يؤكد ميرلوبنتي " عندما أكون قبالة آثار غابرة أتصور بالمماثلة نوع البشر الذين عاشوا فيها " هنا يكون التواصل بين الأنا والآخر بل بين النحن والهم ،فالمسافة تقطعها الآثار والهوة يردمها الوعي  ليردم بذلك التباعد وينبجس الكوني كأفق جامع ولحظة تأليفية ترتقي بالإنسان اٍلى مصاف الإنساني وتتعالي بالخاص إلى منزلة الكلي.
     إن مقصود مولوبنتي هو التأصيل لفكرة " التعايش " من حيث هو الآلية المثلى لتجاوز المركزية، فالانا بلا قيمة إذا ما أعدم الاٍعتراف بالتنوع والتكامل، هنا يصبح الكوني مجالا لانصهار الحياة الفردية مع الحياة الجماعية.

3ـ الكوني ضرورة أنطولوجية:

 قد يكون لزاما العودة إلى الفلسفة السياسية لكانط للوعي بالطابع الكوني لحقوق الإنسان فالمنطلق من هنا حقوقي سياسي مطلوبة رسم ملامح انطولوجيا الكوني أما الرهان فبحث فيما هو أنثروبولوجي لأن الإنسان هو سؤال الأسئلة عند كانط على هذا الأساس سيفكر في الكوني أنطولوجيا من خلال التأكيد على ضرورة احترام الغريب استجابة لشروط الضيافة الكونية فما الذي ألزم كانط على المطالبة بتحقيق شروط الضيافة الكونية؟ وكيف ميز بين حق الزيارة وحق الإقامة وأخيرا كيف لحق الضيافة أن يكون مرتكزا لتأصيل المواطنة الكونية؟
 بوضوح يؤكد كانط أنه، ولضمان الحق السياسي الكوني في الحالة المدنية يتوجب المرور بشروط ثلاثة:

ـ تأصيل نظام جمهوري: على اعتبار أنه الحل الأمثل لتلافي الحرب المعممة.
ـ إنشاء كنفيدرالية: فالتعايش بين الدول في اٍطار كنفدرالي من شأنه أن يحد من نفوذ صاحب السلطة.
ـ تحقيق المواطنة العالمية: من خلال سن قانون سياسي كوني.
  إن ما يهمنا هنا هو اللحظة الثالثة على اعتبار أن من مستلزمات الحق السياسي الكوني ضمان " شروط الضيافة الكونية   " ويبدي هنا كانط ملاحظة، فالمقصود هو محبة الحق وليس محبة الإنسان لكن ماذا نعني بحق الضيافة هنا؟
  إنها تعني حق الأجنبي في ألا يعامل وكأنه عدو حينما يحل في إقيلم آخر فالكنفدرالية تعني مشروعية تنقل الأفراد بين الأقاليم فالضيف لا يجب أن نهابه أو نخشاه طالما كان مسالما بل لا يجب علينا ان نناصبه العداء إنه مجرد مختلف عنا وبالتالي فمن حقه امتلاك خصوصية مغايرة.
   للضيف حقان، حق الإقامة ولكنه مشروط بمعاهدة وحق الزيارة وهو ملك للجميع طالما ان "الأرض ملك للجميع" ويقدم هنا كانط برهانا كوسمولوجيا ليدعم به رهانه الانطولوجي أي حق تواجد الإنسان أينما عنّ له من اجل مقصد هو دائما وفي المنتهى أنثروبولوجي لأن الإنسان إنما هو الغاية القصوى.
إذا ولئن نفى كوبرنيكوس مركزية المكان ها هو كانط ينفي مركزية فكرة المواطنة إذ لكل إنسان أن يحيا أينما شاء، انه المنفتح على العالم والذي مكنته حقوقه من أن يكون صديقا وضيفا مبجلا.
  يراهن كانط إذا على تأصيل فكرة "الاختلاط "أي المزج بين الخصوصيات بما هو الخيط الهادي لخلق سلم أبدية تخرجنا من اللامعقول اٍلى المعقول ومن الفوضى اٍلى النظام ومن التشرذم اٍلى الوحدة أو قل بلغة كانط من الاٍعوجاج إلى التعديل Rectification طالما أن الاٍستقامة المطلقة مطلب صعب التحقيق عند كانط.
     نتأكد في المنتهى أن مطلب الكوني كانطيا إنما يتجلى في خلق واقع انطولوجي متصاهر متضايف ومتحد نضمنه بسن دستور سياسي كوني " ولعل الاٍعلان العالمي لحقوق الإنسان كان استجابة لهذا المطلب الكانطي في مادتيه الثانية عشر والثالثة عشر.

المادة 12: البند الثاني
 يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه.
 المادة 14: البند الأول.
لكل فرد الحق في أن يلجأ اٍلى بلاد أخرى أو يحاول الاٍلتجاء إليها هربا من الاضطهاد.
بقراءة لهذه المواد يتأكد وللوهلة الأولى الطابع الكوني لمبادئ حقوق الإنسان لكن لعل هذا الإقرار بالكونية إنما هو إيهام بها كما أكدت عن ذلك حنا آرنت في كتابها "الإمبريالية" فقد حثت على ضرورة الاٍنتقال من حقوق الإنسان اٍلى حقوق الشعوب لما في هكذا انتقال من رغبة جادة وبحق في الكونية، فالإعلان يقر بها ويطلبها ولكنه مغرق في الخصوصية وعيا وليس جهلا، ولا غرابة فقد سنته الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية على ارض الدولة المنهزمة آنذاك وعاصمتها برلين لذا فأي إنسان نتحدث عنه في حقوق الإنسان؟
إن هذا النقد الموجه لزيف كونية حقوق الإنسان يدفعنا إلى التفكير وبعمق في هذا الذي أصبح ملتبسا خصوصا إذا ما جاورته بعض المفاهيم التي تحاول أن تقتات منه إذ بها تطمسه.
  

7- الكوني بين الحاجة الإٍتيقية والتبرير الاٍيديولوجي.


1 العولمة إفساد للكوني:

لقد كان الكوني ولا يزال بحاجة ماسة ومطلب أكيد ولكن حاجتنا إليه وطلب ودّه لا يجب أن يحجب عنا تمنّعه من خلال تلويناته إذ لعله يزين عند البعض بمساحيق تخدعنا وتنيره بأضواء تبهرنا فلا نرى من حقيقتة إلا ما أراد لنا رؤيته، على هذا الاٍعتبار يكون لزاما وفي المنتهى.
 ـ إدراك الأبعاد الإيديولوجية لمطلب الكوني وخطرها على الخصوصية.
 ـ المراهنة على تخطي التضليل العولمي نحو تأصيل " كونية جذرية ".
علينا إذا تشذيب مطلب الكوني مما أصابه في أيامنا من تلف جرّاء التصاقه بمفاهيم مشابهة ولكنها مخادعة كالعالمي والعولمي. هنا سيشتغل بودربار بعمق ليشخص الداء أما الدواء فلعلنا نعثر عليه ونحن نقرأ كتاب فرويد هاليداي " الكونية الجذرية لا العولمة المترددة".
إن الكونية وكما تقدم تأكيد على ما هو قيمي من حقوق وحريات وثقافة وديمقراطية أما العولمة فمنحاها سوقي لأنها امتداد للرأسمالية والاٍمبريالية، إنها الطور الذي أعلن عن تجاوز مطلب " دعه يعمل " إن تأصيل مطلب " دعه يربح " فهي فكرة ظهرت في الخمسينيات من هذا القرن ولكنها تأكدت بديلا بعد أن تفكك المعسكر الاٍشتراكي بل وتحديدا بتوقيع اتفاقية التجارة العالمية وما ظهور فكرة " النظام العالمي الجديد " إلا إعلانا عن نجاح العالم المعولم. إن التبشير بمجتمع الرفاه الذي يقوم على سعة فضاء السوق أي على المنافسة سيقتل مطلوبنا إذ ليس للدولة الحق في أن تتدخل.
هنا امحت الحواجز وأصبحت الحدود بلا معنى وجوازات السفر بلا قيمة. إن مخادعة العولمة تكشفت من حيث هي لا تطلب يدا منتجة جديدة ولكن تستحمل فما مستهلكا جديدا.
لقد استبدلت الخصوصية بالخوصصة وحل الإيروس محل اللوغوس فنحن اليوم إزاء برونوغرافيا جديدة بما هي فجور جنسي واختلاط عبثي فالثقافة الغربية أضحت تراود الثقافات الأخرى وتتحرش بها ويلعب الحرب هنا دورا رئيسيا ولعل عورات سجن أبو غريب وباٍنكشافه فضحوا العالمي المتخفي والعولمي المغالط والكوني الجديد المظلل.
لا تعتبر العولمة خطرا على تنوع الثقافات من حيث هي نزوع مظلل نحو الكونية فقط بل لأنها مشروع لسيطرة الأقوى على الإعلام والنظم الرمزية بعامة وعلى السوق وبالتالي على القرار فالإعلام في ظل العولمة يقدم الرأي الواحد وفي السوق يقدم الخيار الواحد وكذلك في السياسة يستبد بالرأي وبالقرار فالعولمة من هنا إنما هي نزعة لإكراه العالم على ديكتاتورية الخيار الواحد لذلك لا غرابة أن يكون مناهضيها كثّر في عالمنا.
يتأكد إذا أننا في حاجة ومن جديد للتفريق بين الكوني القيمي والعولمي الكارثي علنا بذلك نتخلص من مباشرة هذه المفاهيم تلقائيا لتلافي التداول الديماغوجي لها فالمآل إذا لم نقم بذلك هو مزيد التأكيد على الإنسان المعولم أو الإنسان النموذج؟
يؤكد بودريار أن الخصوصية في ضل العولمة تعدم وتموت بل ويعترف بعنف العولمي فالغرب دمر كل الخصوصيات التي دمجها ويدمجها بالقوة بما في ذلك من طمس للهويات وإعدام للثقافات وقتل لاٍختلاف والتنوع، إنه نزوع إلى الهوية أي التطابق لضرب الهوية من حيث هي قوام الخصوصية.

2 ـ "العيش معا" بين الوهم والواقع.

       لعل الكونية التي تتستر خلفها قوى رأس المال والمزوقة بالعقل والتقدم والتضامن من أجل العيش معا ليس إلا إيديولوجيا جديدة للأحادية والقطبية والمركزية بل بها تتستر على الاستعمار والهيمنة والغزو وتهجين الشعوب ونمذجة الإنسان فالتاريخ الملموس يكشف زيف هذه التطلعات الطوباوية فالدول الأقوى اليوم هي التي تكيف مطلب الكوني وتصرّف مضامينها فلسفيا وثقافيا، فعن أي كوني نتحدّث ما بعد الكتاب  " نهاية التاريخ والإنسان الأخير"  لمنظر التوجه العولمي  فرانسيس فوكو ياما  ففكرة النهاية إقرار جازم بأن التاريخ قد اٍكتمل وأن الإنسان أتى على نهايته حتى لكأن الأمركة  أضحت قدر الإنسان المحتوم .
إن هذا التحول من مفهوم الكونية من حيث هو مطلب ايتيقي ليصبح سندا لقوى الربح والوفرة ومجتمعات الرفاه، حير المفكرة أراد كريشمان في مقالتها " العولمة والرغبة وسياسة التمثيل " حينما قالت: ما وجه الفطنة في العالمية؟ ولماذا تكون خطاباتها مغرية بشكل لا يقاوم؟ ما هي طبيعة سلطتها؟ بل تعتبر هذه المفكرة أن فكرة العالمية والعولمة بيانا دروينيا لبقاء الأصلح وهنا تكون العودة المتسترة للمركزية الغربية التي تدافع عن الخصوصية لتنفيها وعلى الكونية لتقتات منها.
إن الكونية طريق جديد للهيمنة نظريا وأما العولمة فممارسة تطبيقية لهكذا هيمنة لتلعب العالمية دور الوسيط في لعبة الأقنعة.
إن مقصود الفلسفة في المنتهى أن تتظنن من أجل كشف الأقنعة لكن " واجب النقد اليوم يجب أن يرافقه واجب المعقولية " كما قال فرويد هاليداي في كتابه " الكونية الجذرية لا العولمة المترددة " الذي استند اٍلى دابليو. جي راسمان ليميز بين ما أسماه " المستحيل المرجّح " و"الممكن المستبعد" فعالمنا اليوم مطالب بدعم المستبعد وذلك لتحقيق الممكن على اعتبار أن الاطمئنان للسائد ومسايرة الواقع إعلانا عن موت الفلسفة فعالم اليوم يئن والمضطهدين بحسب عبارة ماركس مازالوا يتنهدون بل بصوت أعلى من ذي قبل بل إن الدين غير قادر لأسباب عدة على التخفيف من تلك التنهيدات.
إذا عزاؤنا اليوم إذا ما رمنا للكونية ديمومة وواقعية التطلع إلى نظام عادل مقام على المساواة والديمقراطية والحقوق رغم كونها مبادىء تدخل في خانة " الممكن المستبعد " خصوصا إذا ما علمنا أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات يهدد الخصوصية والتقدم في التكنولوجيا الحيوية يهدد المعايير القيمية إذا وبعد "الريزو" وما رافقه من تطور بيولوجي في عالم "الجينوم" ليس لنا إلا أن ننتظر طويلا فبقدر تسارع العلم والتقنية بقدر ما يكون "الممكن المستبعد " أكثر بعدا ولكنه ليس مستحيلا.
ليس من باب التشاؤم أن نؤكد هذه الأحكام إذ في زمن الجندر والجنس المصور أو البورنوغرافيا قد يكون التشاؤم طريقنا نحو مساءلة حقيقية للراهن.
إن التفكير في الكونية إذا يمر أولا بالحد من تسارع العلم وثانيا بفهم كيفية اشتغال العالم.
وأما مفتاح هذين الشرطين فأكد عليه شيلر schiller في كتابه " في جمالية تعليم الإنسان " بالقول إنه التعليم الذي يكرّس فكرة أن الفرد مواطن دولته ومواطن العصر الذي يعيش فيه.
على هذا الأساس يمكننا الحديث عن " كونية جذرية " منحوتة بمنظومة قيم عالمية مشتركة تتفق عليها الحضارات والأديان كمرجعية ونظام معياري يحددان أنماط العلاقات على أسس تعاونية ليست صراعية حتى يقتنع الجميع أن جوهر الكونية ليس نتاج الفكر الغربي حصرا بل فكر الإنسان عامة الذي ساهمت فيه وما تزال كل ثقافات العالم سواء راهنا أو عبر قرون التاريخ الطويلة.

 إن الكونية أخيرا وعي ومسؤولية فطالما أن المستقبل يبدأ من الحاضر كما انطلق الحاضر من الماضي فإن الكونية انخراط في بناء مستقبل أفضل للجميع رغم تعدد الأعراق والثقافات.

تعليقات

  1. عمل في منتهى الدقة شكرا جزيلا

    ردحذف
  2. الرجاء اريد الاجابة على هذا الموضوع:
    هل تنبئ العولمة بنهاية الخصوصيات الثقافية؟

    ردحذف
  3. ابحث عن موضوع عن الخصوصية

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية