مدخل عام لبرنامج السنة الرابعة اداب

مدخل عام للبرنامج: الفلسفة ومطلب الكلي.


ثمة علاقة أصلية بين ما هو فلسفي وما هو كلي، والذي تعين المبدأ الأصلي للتجربة الفلسفية ذاتها. إن الفلسفة من حيث نشأتها الأصلية، كانت عبر توسط الكلي بإعطائه المنزلة والمعنى الذي جعله يحيا هنا والآن بعيدا عن كل ممارسة أسطورية. لقد كانت الأسطورة تحكي نشأة العالم المخلدة، أمجاد الملك الذي يقيم حكمه بين القوى المقدسة نظاما ترتيبيا ...ولم تكن إلا نسيجا من العجائب.
 إن الفلاسفة الأول مثل طاليس هم الذين أعطوا للكلي البعد الذي جعل الفكر يتحول إلى النمط المحايث للوجود الطبيعي، إذ من خلال الطبيعة حاولوا تفسير الطبيعة، فطاليس عين الماء باعتباره مبدأ الأشياء، وهو لا يقصد بالماء مجرد العنصر الطبيعي الذي نعرفه، بل أساسا باعتباره المبدأ الذي يجعل الأشياء المتعددة مفهومة. لقد أعطي الفلاسفة الأول معنى جديدا للأصل، يصفه وايزمان بقوله " إنها محاولة لجمع المتعدد في الواحد، والواحد ليس جملة المتعدد-الموجودات المختلفة- بل هو الأهم في كل شيء. والأهم نتيجة تقييم معياري. والمعيار عملية عقلية إذ تتجاوز الواقع وإن كان الواقع أساسه. وهذا الواحد هو الكلي، بمعني الحقيقة الشاملة لكل ما هو موجود، من زاوية العقل". لدلك تفطن جيل دلوز إلى "أن العقل قد تجسد بغتة في أعمال فلاسفة الطبيعة فنزل من السماء إلى الأرض ليظهر لأول مرة في تلك المدينة على مسرح التاريخ".
إن نشأة الفلسفة إذ اقترنت بالتحول في فهم الكلي وتحويله من التعالي الأسطوري إلى التعالي العقلي ليكون هكذا مبدأ تعقل الموجود بما هو كذلك محايث لما هو طبيعي فهو مبدآ معروفية الموجود في تعدده، ومبدأ حوار ونقاش وليس سرا يحتكره الحكيم ويختص به دون غيره. اقترن الكلي بصيغة مغايرة للفكر والتفكير وتحويله من – العجيب- إلى اللوغوس العقلي وما يقتضيه من حوار ونقاش وهو ما اقترن بالفضاء العمومي أي بوجود المدينة كما ذهب في دلك جان بيار فرنان. فالمدينة أمنت:
أ/تفوق الكلام على كل وسائل السلطة. فالكلام قد غدا الأداة الأساسية بامتياز. مفتاح كل سلطة في الدولة. وسيلة قيادة وسيطرة على الآخرين. هذه الفعالية للكلام لم تعد مقتصرة على الطقوس الدينية بل أصبحت تجسيدا للحوار وللجدل واستخدام البراهين والحجج في وجه الخصوم وبدلا من أن تكون المسائل التي تخص المصلحة العامة من اختصاص الملك أصبحت توضع تحت نظر الجدل والنقاش.
 ب/الدعوة العلنية لكل مظاهر الحياة الاجتماعية وأصبح الحوار والبرهنة والجدال قواعد اللعبة الفكرية والسياسية على السواء.
ج/ أفول الأصنام الدينية. فالحماية التي كانت تؤمنها العناية الإلهية سابقا للمحظوظين ستكون من الآن فصاعدا من نصيب كل الجماعات. العبادة أصبحت شعبية والمعبد أضحي مفتوحا أمام الجماهير.
 لخص فرنان التحول العميق في بنية الخطاب الفلسفي وتعيينه الكلي مبدأ تعقل وممارسة "أحدث الفلاسفة الأول مفاهيم تدل على نظام كوني لا على قوة إله جبار وسلطة ملكية وإنما على قانون عدالة منحوتة على الطبيعة وقاعدة توزيع "نوموس" (قوانين) تفترض بالنسبة لجميع العناصر المكونة للعالم نظاما متكافئا بحيث لا يستطيع أي عنصر أن يطغي. إنه توجه هندسي من حيث أن الأمر لا يتعلق بنسج تسلسل أحداث روائية وإنما باقتراح وإضفاء صورة على العالم أعني أن نعرض على الأنظار مسار الأمور ومجراها بأن نضعها في إطارها المكاني: هذا لم يكن معجزة إغريقية".
إذا تعين الكلي قوام للتجربة الفلسفية ضمن البعد الذي يجعلها تحضر خطابا مغايرا لغيره فإن الفلسفة قد كونت الكلي ضمن البعد الذي لا يكون إلا تكوينا مكوِّنا-بكسر الواو- مكوَّنا-بفتح الواو-من خلال تجذير علاقة الموجود بالوجود: فكيف يتكون الكلي بما هو كلي ككلي والحال أننا نغرق في الجزئي وفيما هو مباشر؟ إن ما يتكون لا يكون إلا ضمن الخاصية التي تجعله قابلا للتعديل ولإعادة التفكير ولدلك كان الكلي مكونا تكوينا إشكاليا مفتوحا على إعادة صياغته ضمن العمق الإشكالي الذي يفصله عما قد يقع فيه من تظنن وادعاء يتحول بموجبه إلى كلي قد فقد كليته: ففي أي وضع يفقد الكلي كليته؟ ليتحول إلى نمط من الشمولية أو الكلية الفارغة؟ ما المطلوب في الكلي حتى يكون كليا ومبدأ لتعقل الأشياء وليس إخفاء وتستر لها؟ كيف نجعل من الكلي نداء للأشياء بأن تحضر هنا وليس أن تبتعد عنا في أنماط من الكليات التي تفصلنا عن العالم؟ هل الكلي مبدأ لإقامتنا أم للمغادرة؟ مبدأ للتحرر أم للاغتراب؟
يرتبط الكلي بمعرفة كل الأشياء أي الوحدة التي تأتي تجميعا للأشياء فالكلي ما لا ينقصه أي جزء من الأجزاء. فهو الشامل.
- يتعلق بمعرفة الأشياء العويصة، الصعبة بتجاوز مظاهرها نحو رصد ما هو مشترك بينها.
**الكلي هو ما هو متجاوز لما هو حسي، جزئي مثال الأشياء الزرقاء. فهو يتعلق بكل الأشياء الزرقاء.
-يرتبط بمعرفة علل الأشياء. ويصنف أرسطو العلل إلى أربعة:
 1-العلة المادية فهي المادة أو الهيولي وما منه الشيء كحجم الطاولة أو العلة المادية للتمثال.
 2-العلة الفاعلة وهي بما يُصيِّر الشيء كالفنان الذي صنع التمثال.
 3- العلة الصورية أو الصورة وهي ماهية الشيء ومجموع الخصائص التي يتم بها كماله كشكل التمثال وما هو عليه.
 4- العلة الغائية أو التي ما من أجله الشيء وهي هنا الغاية التي قصد إليها الفنان حين صنع التمثال.
←يمكن رد العلل إلي علة واحدة وهي الصورية .فالعلة الصورية تسمي غائية من حيث أنها الصورة النهائية التي يتطلع إليها الفاعل عندما يشرع في عمله كما أن صورة الشيء مبنية علي الغاية منه متضمنة في ماهيته. وكذلك العلة الفاعلة يمكن إرجاعها إلى الصورية وذلك لأن الفاعل إنما يحقق الصورة في الشيء المراد تحقيقها فيه. فالصحة التي في ذهن الطبيب هي وسيلته لشفاء المريض فصورة الصحة التي هي غاية الطبيب فهي إذا المحركة له وبذلك تكون العلة الفاعلة جزء من العلة الصورية، متضمنة في ماهيتها. وهكذا فإن العلة الغائية والفاعلة والصورية هما شيء واحد إذ يرتد البعض إلى البعض الآخر إلى حد الوقوف عند العلة الحقيقية وهي العلة الصورية. 
 - الكلي هو الجوهري، المتجاوز لما هو حسي هو " الأكثر بعدا عن الإدراكات الحسية".
-إن الكلي الميتافزيقي ليس إلا فكرة شمولية، فارغة غير متعين تدعي أنها حقيقية ولكنها مجرد ظن لما فيها من تعال، تجريد وثبات ومن ثمة لا تمثل وسائط للتفكير بل إنحراف به نحو أنماط من؛ الظن ومن ثمة فإن:
*الكلي ليس مجرد مقابل للجزئي بل إن الكلي لِيكون كليا يجب أن يكون قابلا للحركة وذلك يتولد من كونه يحمل في ذاته ما ليس هو بالنسبة لما يمكن أن يصير عليه. إن الكلي دائما منفتح على كلي أو ما هو آخر ولا تهدأ حركته ضمن اللاتعين تطابقا نهائيا مع كماله المطلق وفي ذلك حقيقته وإطلاقيته.
 *الكلي محايث لذاته بتناقضه وهو بالتالي تاريخي نصل إليه في الأخير ومن ثمة ليس هناك كلي إلا وهو توسطي توسيطي فهو ليس مجرد فكرة بل فكرة تفكرية.
 *هو كلي حقيقي لأنه متعين، يحمل خبرة آلاف السنين فهو لا متناه فهو كلي متعين ككلي مطلق قيمته:
- معرفة من أجل غاية، مصلحة – مورط في الجزء. 
 - توظيف الكلي نحو السيطرة والاستمالة.
 ←الكلي في خدمة الجزئي أو هو الجزء مرفوع إلى كل. ولذلك يقع في خلط إذ أقصي ما يتعين من خلاله هو الظن بأننا ندرك ما هو حقيقي.
 - معرفة من أجل المعرفة أي غاية في ذاته.
 - معرفة ننشد بها الحقيقة.
 ← الكلي في خدمة الكلي. فهو مبدأ معرفة الأشياء والغاية التي تجري إليها. وهذه الغاية هي الخير الاسمى.
قيمة ذاتية من ناحية ترتفع من خلاله الذات إلى إدراك ذاتها والوعي بها توسطيا.
 - قيمة موضوعية من جهة أن هذا الوعي الذاتي يبقي وعيا فارغا ما لم يرتفع إلى ما هو كلي بحق وهو ما يقتضي منها تجاوز انانتها للمصالحة مع النحن وفي ذلك كمال لإنسانيتها وتحقق معقوليتها في وحدة ليست تجريدية بل تاريخية متعينة.
 ملاحظة: لقد تعين الكلي على أنه الخاصية الأساسية لتفكير الإنسان، فهو إنساني من جهة أن الحيوان لا يدرك إلا ما هو جزئي، مباشر. إن الإنسان قد طبع الكلي بانتماءاته المختلفة أي بواقع مساءلته للموجود والوجود فإما هو مجرد امتداد لخبرة حسية أقصي ما يتحقق فيها هو ما هو شمولي، ولذلك فإن الكلي يتخذ بعد التجاوز ولكنه يبقي مع ذلك في أبسط معاني التجاوز كتجريد يستبدل الأشياء بوحدة لا تؤخذ إلا على معنى توحيد الكثرة وتجميع لها في نمط من الشمولية لا تحتمل صلابتها في ذاتها إلا بما هي الوجه المقلوب للعالم الحسي. وإما هو كلي وقد تعين من خلال المساءلة الفلسفية وخصوصيتها الميتافزيقية يقين مجرد وتعال وثبات وهو في ذلك يقين جوهري مكتمل بصورة ثابتة متعين خارج السياق الإنساني والتاريخي. ليكون ما قبلية محنطة تعين مقولات منطقية أو وساطات قيمية ...إن الميتافيزيقا أعطت للكلي ما هو حقيقي وما هو منظم ومنحته خاصيته الإشكالية الأساسية من جهة القدرة النقدية التكوينية، لأن الكلي لم يتكون سواء مثلا أو جواهر إلا من خلال الخطاب الذي عرف كيف يفكه ويحرره مما هو مزعوم ومما وقع عليه من استحواذ من خلال إستراتيجيات سلطوية وخطابية.
 إن هذا البعد الإشكالي الذي تكون من خلاله الكلي أعطي له الخاصية الأصلية وهو هذا التجاور الإشكالي وتحويل الكلي إلى مشكل يتعين من خلاله الكلي ضمن خصوصية إشكالية تعود صياغته ضمن الأبعاد المختلفة. إن الميتافيزيقا تفشله لأنها تورطه في يقين التمثل فأفرغته وحولته صورة باهتة من الوجود والفكر أو من التمثلية ليكون متراوحا بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي ضمن الفكر الذي يريد أن يعطيه الخاصية التي تجعله كلي حقيقي.

 إن ما يعنينا هو:
 * التفطن إلى الخاصية الإشكالية لتكوينية الكلي. فالكلي يتكون إشكاليا وبالتالي ليس معطي. ولا حتى متعين بشكل مطلق.
 * التفطن إلى المسارات الإشكالية لما هو كلي. إذ أن تنويعاته ليست يقينيات نتداولها أو نبشر بها أو حتى نعلن عنها فلسفيا بل هي نبش في طبيعة انتماءاتنا أي في قدرتنا على المساءلة والأشكلة كضمانة ليأتي الكلي ليس يقينا محنطا أو بضاعة نستهلكها بل مشكلا يفتح الكلي على ما هو كلي في كل كلي: لماذا تعين لدينا الكلي بهذه الكيفية كوحدة أو كتعدد؟ كهوية أو كاختلاف؟ وبهذه المضامين المجردة أو المتعينة؟ التاريخية أو المتعالية؟ هذا البعد الإشكالي يمتد في العمق الإشكالي لما هو كلي: أية نزعة إنسانية كانت شرطا لهذا الكلي؟
*التفطن إلى الأفق الإشكالي لما هو كلي وذلك لا يتعين إلا تحررا من كل نزعة كليانية وشمولية. 
فأيّ كلّي تسعى الفلسفة إلى إدراكه؟ ألا يمكن أن يكون الكلّي مجرّد فرضية مُسبقة؟ ألا يكون الكلّي مطلبا مستحيلا أو في أحسن الأحوال مطلبا عَصِيَّ التّحقّق؟ هل يمكن إدراك الكلّي بمعزل عن الجزئي، والواحد بمعزل عن المتعدّد، والثابت بمعزل عن المتغيّر؟ هل من تنافر بين الكلّي والجزئي، وبين الواحد والمتعدّد؟ لعلّ هذا المشكل يُمثّل لبَّ التفكير الفلسفي منذ البداية.

دواعي طرح المشكل:

التباس في استعمال المصطلح:

يتعلّق الالتباس هنا بالخلط القائم بين الكلّي والعام والعالمي والعولمي والمطلق، بل إنّ الكلّي قد يحتمل معنى الذات الإلهية. لنأخذ النصّ التالي مثالا عن ضرورة التمييز بين العام والكلّي:
Une idée est dite générale lorsqu'elle convient à plusieurs objets ; mais quand on dit qu'une idée est universelle, on ne veut point dire du tout qu'elle convienne à tous les objets ; car il n'y a que les idées de possible ou d'être qui soient dans ce cas, et elles sont bien abstraites et creuses. Et pour les idées d'espace, de temps, de cause, qui sont évidemment des relations on ne peut point dire qu'elles appartiennent à quelque objet ; on dirait mieux qu'elles sont nécessaires, c'est-à-dire que toute pensée les forme, sans pouvoir les changer arbitrairement. Et puisqu'il y a des idées qui sont communes à tous les esprits, ce sont ces idées-là qui doivent être dites universelles ; et l'on ne fera que revenir au commun usage ; car si l'on dit que quelque chose est généralement admis, cela veut dire que l'expérience y conduit la plupart des hommes, d'après des cas à peu près semblables. Au lieu que si l'on dit que quelque chose est universellement admis, on veut exprimer que cela est clair et indé­niable pour tout esprit qui entend la question.
ALAIN - ELEMENTS DE PHILOSOPHIE * Chap.5, des idées générales

دواعي فلسفية:

يعتمد الفكر العامي على الإدراك المباشر لمظاهر الأشياء عن طريق الحواسّ، فيظلّ سجين الـ "هنا والآن" كما يرى هيغل. غير أنّ الفلسفة تُعلّمنا أنّ مثل هذه المعرفة ليست ممّا يُعوّل عليه إذا ما وضعنا نُصب أعيُننا معرفة الحقيقة (أمثولة الكهف ـ أفلاطون) فمظاهر الأشياء غالبا ما تكون خدّاعة (التأمّلات ـ ديكارت). من هنا كان من الضروري التعويل على المفهوم الذي من خلاله ندرك الكلّي وراء الجزئي. إنّ جلّ الفلسفات تسعى إلى تجاوز الآراء والظنون (عالم الدوكسا) باتّجاه الكلّي / الكوني متوسّلة في ذلك المفهوم. غير أنّ ما نلاحظه أنّ جلّ الفلسفات كذلك لا تتّفق على معنى واحد للكلّي، فهناك على الأقلّ توتّر قائم بين معنيين للكلّي: الكلّي كفكرة مجرّدة (ما يُسمّيه هيغل الفكرة الشاملة) والكلّي العيني (ما يُسميه هيغل الكلّي الحقيقي) يرى هيغل " أنّ جميع الاتّهامات التي تُوجَّه إلى الفكر، والفكر الفلسفي بصفة خاصّة، مصدرها إلى حدّ كبير الخلط بين هذين اللونين من ألوان الكلّي".

دواعي إبستيمولوجية:

Nous nous trouvons sans doute dans une période de transition, démunis devant les modèles simulacres de grande science, sans outils de pensée équivalents à ceux que Platon en son temps construisit. La position du scientifique qui s'astreint à épurer la formulation d'un problème dans un effort vers une rationalité objective est souvent confondue avec celle de l'expert qui, engagé dans une situation sociale où il joue le rôle de maître d'œuvre pour un maître d'ouvrage, utilise la modélisation comme moyen d'expression d'un projet, en visant, éventuellement, la naissance de sentiments et de convictions par intérêt.
Enquête sur le concept de modèle dirigé par : Pascal Nouvel
La modélisation et les sciences de l’ingénieur Nicolas Bouleau.
P.U.F (2002).
نوجد، من دون شكّ، في مرحلة انتقالية عزل أمام النماذج الوهمية للعلم الكبير دون أدوات للتفكير تُضاهي ما بناه أفلاطون في عصره. إنّ موقف العالم الذي يفرض على نفسه تحسين طرحه لمشكل باتّجاه معقولية موضوعية غالبا ما يقع الخلط بينه وبين الخبير الذي يجد نفسه في وضعية اجتماعية حيث يلعب دور المُصمّم لمشروع لصالح مستثمر له، متوسّلا النمذجة كتعبير عن ذلك المشروع، آخذا في اعتباره ما يمكن أن يتولّد عن ذلك من مشاعر وقناعات مرتبطة بمصلحة ما". (النمذجة وعلوم الهندسة ـ نيكولا بولو ـ 2002)
 يشير المؤلّف في هذا النصّ إلى ما يُميّز النشاط العلمي والتقني في عالمنا المعاصر، حيث نجد تداخلا أو التباسا بين عمل العالم الباحث عن حقيقة موضوعية كليّة وبين الخبير أو المهندس الذي يرتبط عمله بتحقيق مصلحة المستثمر معتمدا في ذلك على النمذجة. إنّ الخبير لا يهتمّ بالحقيقة كغاية في ذاتها رغم أنّه يعتمد في عمله على المعرفة العلمية. هذه الوضعية المُستجدّة تفرض صياغة جديدة للسؤال الإبستيمولوجي: هل بوسعنا اليوم تجاهل ما تفرضه علينا النمذجة من إعادة النظر في منزلة الحقيقة؟
Le point le plus important du point de vue de la philosophie de la connaissance est qu'un modèle validé n'est jamais qu'une approche parmi d'autres. Quoique l'auteur de la modélisation ait souvent tendance à s'y accrocher comme à la vérité vraie, elle ne constitue qu'une lecture de la complexité rencontrée. Des conflits d'interprétation sont ici courants aussi bien que dans les sciences humaines. Deux oppositions paradigmatiques typiques sont celle des modèles descriptifs ou explicatifs et celle des modèles quantitatifs ou qualitatifs. La première fit son apparition dans les débats autour des modèles fondés sur les séries temporelles en économie dans les années 1960. La seconde a été soulignée par René Thom à une époque où le fort développement de l'analyse numérique occultait l'intérêt des schémas purement qualitatifs pour la compréhension des phénomènes. Souvent le modèle participe des quatre catégories à la fois.
(Même référence)

دواعي سياسية وحضارية:

إذا كان لا بدّ من التمسّك بالكلّي كمطلب، نحن لا نستطيع مع ذلك تجاهل ما آل إليه أمر الكلّي اليوم، فلم يفلت استعمال المصطلح من براثن الإيديولوجيا حيث يقع التشريع اليوم إلى هيمنة قطب على آخر باسم حضارة تدّعي الكونية، مُتخفيّة وراء كونيّة حقوق الإنسان أو الحرّية أو غيرها. (العولمة ـ المركزية الأوروبية. وهو ما نجد له صدى حتّى في نصّ هيغل المشار إليه).

مراحل دراسة المشكل:

لعلّه من السّهل أن نلاحظ شدّة التعقيد فيما يتعلّق بمطلب الكلّي / الكونيّ من خلال طرحنا السابق للمشكل، إذ يشمل العديد من مجالات البحث الفلسفي، وهي:
ـ مجال البحث في الوجود الإنساني: ما هو الإنساني في كلّ إنسان؟ هل يمثّل الإنسانيّ جوهرا ثابتا بسيطا وواحدا ينأى بنفسه عن شبهة التغيّر والمركّب والمتعدّد؟
ـ مجال البحث الإبستيمولوجي: هل تتنافى النمذجة مع الحقيقة كمطلب كلّي؟ هل من الممكن اليوم مواصلة الالتزام بمبدأ الموضوعية؟
ـ مجال البحث في القيم: هل في تنوّع القيم التي تستند إليها الممارسة العملية ما يقود إلى ريبية تقبل بالموجود ولا تسعى إلى إرساء قيم كونية؟

رهانات التفكير في المشكل:

ـ رهانات نظرية:

التضايف بين الكلّي والجزئي، بين الوحدة والكثرة، بين الثابت والمتغيّر. التحوّل من سؤال "ما الإنسان؟" إلى سؤال "ما هو الإنساني؟". تجاوز ثِقتنا العمياء بشأن الموضوعية. تدارك الفصل بين تنوّع القيم في الواقع وبين سعي الفلسفة إلى بناء قيم كونية.

ـ رهانات قيمية:

ضرورة التواصل بين البشر على اختلاف هويّاتهم، والوعي بأنّ التنوّع لا يمثّل عائقا بقدر ما هو عامل إثراء لتجربة الإنسان في الوجود. ضرورة تحمّل العالم والخبير مسؤوليتهما عمّا يُنتجانه من معارف ومشاريع. تجاوز التبريرات الإيديولوجية للاستبداد. انفتاح التجربة الخلقية والجمالية على الكونية.

إشكالية البرنامج

المساءلة الفلسفية بين نسبية الاختلافات ومطلب الكلي
« Le questionnement est bien le principe de la pensée même, le principe philosophique par excellence. »
" إن المساءلة هي حقا مبدأ الفكر ذاته، إنها المبدأ الفلسفي بامتياز."
Michel Meyer, De la problématologie

- لقد كان عنوان برنامج الفلسفة في السنة الثالثة " مطلب التفكير: من اليومي إلى الفلسفي"، وهو عنوان تمت مقاربته من خلال فصول ثلاثة:

* أولها: فصل" اليومي" الذي هدف إلى الكشف عن آليات عمل اليومي التي تفرض على الوعي والفعل الإنسانيين إيقاعا تكراريا رتيبا يجعلهما موسمين بالسلبية. فبالرغم من مظاهر التغير والاختلاف وادعاء الفاعلية، فإن الأفراد ينخرطون سلبيا في أنماط متكررة تجعل آراءهم واختياراتهم نتاجا لتأثيرات خارجية مصدرها السائد الاجتماعي وسلطة الأكثرية ووسائل الاتصال الجماهيري. وفي ذلك ما يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب أي إلى تشويه مميزات الفرد الإنسانية وجعله غريبا عن ذاته وعن واقعه، فهو كائن الفكر والحرية ولكنه يتبنى آراء بلا تفكير ويحدد مواقف دون اختيار حر. وهو يحيا في عالم يفهمه بشكل زائف فلا يتوصل إلى إدراك نظامه وآليات عمله. إن معاينة هذا الوضع لا يمكن أن تتم من دون تساؤل: كيف يمكن للأفراد التحرر من الاغتراب في سياق اليومي؟

 * إن هذا السؤال هو الذي أجاب عليه الفصل الثاني" مقتضيات التفكير"، حيث حاول أن يبين أن الفرد لا يمكنه أن يتحرر من اغترابه في اليومي إلا إذا غير علاقته به من خلال ممارسة التفكير الذي يقتضي مساءلة إشكالية ترفض الإقرار بالبديهي ليستنطق ما هو ضمني لا مفكر فيه داخل كل موقف فتحوله إلى مشكل يحرج الفكر ويدعوه إلى البحث والتجاوز. إن تحقق هذا المقتضى لا يمكنه إلا أن يحرر الفرد من علاقته العفوية المختلطة باللغة ليعرف الألفاظ بكل دقة ويحولها إلى مفاهيم تمكن من تمثل الواقع بأكثر دقة ويحصنه من أشكال المغالطة التي يحملها الخطاب فلا يدافع عن أطروحة ولا يدحض أخرى إلا بالاستناد إلى حجج وجيهة يبنيها العقل وحده.

  * أما الفصل الثالث فيتعلق " بتجربة الالتزام " التي يقدمها كامتداد طبيعي لفعل التفكير باعتباره لا يمكن أن يتحقق في إطار العزلة ولا أن يكون لامباليا. فالالتزام هو الوجه الآخر للتفكير من حيث أنه لا يكون إلا في إطار الحوار مع الآخرين والقبول بالنقد كقاعدة للتعامل مع كل المشاركين فيه، رهانه من ذلك إرساء تواصل حقيقي يبرر الرجاء في حياة إنسانية بلا عنف. فالتفكير إذن مسؤولية بإقناع الذات والآخر بأن الإنسان قادر على تغيير واقعه نحو الأفضل وشجاعة في تحملها.
 -  ويتضح من خلال الفصول الثلاثة أن برنامج الفلسفة في السنة الثالثة قد راهن على إمكانية قيام تواصل حقيقي بين البشر يمكنهم من إزالة أشكال النزاع للتفكير معا في كنف الحوار وللحياة معا في عالم بلا عنف مم يهيئهم للتحرر من الاغتراب.
 - إذا كان جوهر التفلسف هو المساءلة، فإنه لا يمكن الانخراط في هذا الرهان دون مساءلته إشكاليا للكشف عن مفترضاته الضمنية وامتحان مدى وجاهتها:

 - إن المفترض الأول الذي تكشف عنه مساءلة الرهان المعلن هو أنثروبولوجي (والمفترض هو الموقف الذي يسلم به ضمنيا قول معلن ما (أطروحة، سؤال) فيجعل طرحه ممكنا. ويكون المفترض أنثروبولوجيا عندما يتعلق بتصور عن الإنسان: انتربوس في اليونانية) ذلك أن الإقرار بإمكانية تواصل حقيقي بين الناس من خلال التفكير يهيئهم للاتفاق ووضع حد لعنف الخطاب والممارسة يفترض ضمنيا وجود خصائص مشتركة بين البشر تعبر عن وحدة كلية تجمع بيتهم رغم اختلافهم (العقل، الإحساس، الاجتماعية، الرمز، الإنتاج...)  غير أن هذا المفترض لا يخلو من إحراجات إذ: بأي معنى يمكن الإقرار بوحدة إنسانية كلية في ضوء ما يتميز به البشر من كثرة تعبر عن تنوعهم الفردي والثقافي؟ ألا يتضمن الإقرار بوحدة إنسانية كلية خطرا مزدوجا يهدد بتحويل تلك الوحدة تارة إلى ماهية مجردة تهمش الكثرة الفعلية بين البشر وطورا إلى مركزية اثنيه تفرض نموذجا حضاريا ما وترى في كل خصوصية مغايرة ضربا من البربرية؟ عندئذ هل يكون الحل بتثمين الاختلاف بين الأفراد والمجتمعات بما تتضمنه من ثراء والدفاع عن الخصوصية ضد كل وحدة مزعومة؟

[إن هذه الأسئلة تطرح إشكالية: الإنساني بين الوحدة والكثرة التي ستكون محورا للتفكير في الباب الأول من برنامج الرابعة]  
                                                     
    أما المفترض الثاني الذي تكشف عنه مساءلة رهان برنامج الثالثة فهو معرفي، ذلك أن التفكير سيكون بلا معنى إذا لم ينفتح على إمكانية الاتفاق وهو ما لا يتحقق من دون الإقرار بإمكانية إلى حقائق تتميز بالكلية باعتبارها قضايا تمكن من معرفة موضعية بالواقع وأضحت العلوم اليوم متهمة بكونها قد بعثرت الواقع وجزأته فلم تقدم سوى حقائق جزئية ومؤقتة؟  وأن الفلسفة أضحت متهمة بكونها مساءلة عقيمة لا تنتج أية معرفة؟ عندئذ هل ينبغي الاستسلام لريبة تجعل التفكير بلا أفق وإمكانية الاتفاق مستحيلة.؟ أم لابد من خيار ابستيمولوجي جديد يهيئ العلوم للانفتاح على الواقع في تعقيده ومن الاعتراف بإسهام المساءلة الفلسفية في بلورة مطلب الحقيقة الكلية؟
   [إن هذه الأسئلة تطرح إشكالية: العلم بين الوحدة والكثرة التي ستكون محورا للتفكير في الباب الثاني من برنامج الرابعة]

    أما المفترض الثالث الذي تكشف عنه مساءلة رهان برنامج الثالثة فقيمي ذلك أن الانفتاح على إمكانية الاتفاق باعتباره البديل النوعي للعنف ليس معرفيا فحسب بل ينبغي أن يكون كذلك عمليا قيميا يتصل بأحكام القيمة في مجال الممارسة الأخلاقية والسياسة والفنية، وهو ما يفترض وجود قيم كلية تضع معايير موحدة بين الناس في تحديد الخير والحق والجمال. ولكن مساءلة هذا المفترض سرعان ما تكتشف عن إجراءات عديدة. أليس من تناقص في الحديث عن قيم كلية في ظل ما تتضمنه المجتمعات من قيم نسبية مختلفة لا تفتأ تتغير عبر التاريخ؟ عندئذ هل يكون من المشروع القول إن القيم لا تكون إلا نسبية وجزئية تعبر عن مواضعات المجتمعات واختيارات الأفراد؟ ولكن ألا يفضي ذلك إلى نسبوية قيمية نتفي إمكانية التمييز بين الحق والعنف والحسن والسيئ والجمال والقبح فتجعل الفعل الإنساني بلا إحداثية توجهه وتهدد بانفجار العنف وتبريره؟    
                                               
      [إن هذه الأسئلة تطرح إشكالية: القيم بين النسبي والمطلق التي ستكون محورا للتفكير في الباب الثالث من برنامج الرابعة]

   رهانات الأسئلة المطروحة:


     - إن مساءلة هذه المفترضات التي قام عليها رهان مطلب التفكير في برنامج الثالثة عن صلته الوثيقة بمطلب الكلي على مستويات ثلاثة: وحدة الإنسانية على المستوى الأنثروبولوجي، وكلية الحقيقة على المستوى المعرفي، وكلية القيم على المستوى العلمي. وفي ذلك ما يعبر عن رهانات أساسية:

       فأنثروبولوجيا، إن فهم البشر للاختلافات القائمة بينهم كتعابير متنوعة عن هوية إنسانية كونية توحد بينهم وتتيح لهم إمكانية التواصل والتعايش السلمي والاحترام المتبادل بحيث يضعف ذلك الايدولوجيا القومية والعنصرية والجنسية والطائفية والاستعمارية التي تتخذ من الكثرة مبررا للتفاوت والإقصاء.
       ومعرفيا، إن العمل على التوصل إلى حقائق كلية تعبر عن تظافر كل المعقوليات في معرفة الواقع داخل تعقيده من أجل التقدم بالإنسان هو ما يمكنه أن يحرر البشر من معارف مجزأة أشكال لا تقدم سوى حقائق جزئية غايتها النجاعة دون اعتبار الإنسان.
      وقيميا، إن العمل على بلورة أشكال من الاتفاق حول قيم أخلاقية وسياسية كلية تتيح إمكانية توجيه الحياة المدنية والسياسية والعلاقة بين الأشخاص طبقا لمبادئ وقوانين تحمي احترام كرامة الإنسان وحقوقه وهو ما يمكن أن يحرر البشر من نسبوية يصبح في نطاقها كل شيء مبررا وجائزا كمقدمة تهتم باندلاع العنف.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية