الانساني بين الكثرة والوحدة

الإنـسانيّ بين الكثرة والوحـدة


إدغار موران :"الإنسان هو كائن ثقافي بالطبيعة، لأنّه كائن طبيعي بالثقافة"
(Le paradigme perdu, p.100, Points n°109)

إنّ صياغة المسألة على هذا النحو:” الإنساني بين الوحدة والكثرة”، إنّما تنطوي على إشارات إشكالية مخصوصة. من هذه الإشارات علينا أن نذكر:
1. لماذا “الإنساني” وليس “الإنسان”: هل يعني ذلك أنّ التعريفات الفلسفية الكلاسيكية لمفهوم “الإنسان” قد صارت غير مناسبة لفهم أنفسنا، ومن ثمّ هي محاولة للبحث عن تعريفات جديدة أكثر إيفاءً بخصائص الظاهرة الإنسانية؟ أم أنّه اعتراف ضمني بأنّ “مفهوم” الإنسان هو ادّعاء منهجي لم تستطع الفلسفة أن تفيَ به إلى حدّ الآن، ومن ثمّ يجدر بنا نقل المشكل من مستوى سؤال الميتافيزيقيين- الباحثين في ماهية الموجودات- “ما هو الإنسان؟” إلى سؤال المؤرّخين- لوضعية النوع الإنساني- “من هو الإنسان؟”
2.  من أجل أنّ “الإنساني” سيظل رغم كل تحفّظاتنا صفة نشير بها إلى “الإنسان”، فإنّ علينا أن نسأل: ما دلالة هذا التراجع الفلسفي من موقف “تأسيسي“، كانت غايته العليا إرساء “علم الإنسان”، ومن ثمّ تعيين ماهية الإنسان، إلى موقف “تاريخي“، لا-تأسيسي، يكتفي بوصف ظواهر الإنساني وفهمها، دون أي قرار ميتافيزيقي حول ماهية الإنسان؟
3.  أنّ الشطر الثاني من العنوان أي “بين الوحدة والكثرة” لا يخلو هو أيضا من حيرة منهجية، وذلك ليس فقط كما يظهر لنا من حرف “بين”، التي تفيد الوصل والفصل معا، بل في مواصلة التعويل على التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين “الواحد” و” الكثير” في تقدير الموجود. فإنّ هذه الصيغة ليست جديدة تماما في الفلسفة، حيث أنّنا نعلم أنّ أفلاطون هو من أدخل “الثنائيات” في ماهية الإنسان، ومنها على وجه الخصوص وحدة النفس –العقلية- وتكثّر الجسم –الحسية. وهو وضع منهجي بقي سائدا ومعمولا به إلى حدّ كانط. ولذلك فإنّ الجديد حقا هو هذا التنصيص الصريح على “البينية”: إنّ الإنساني هو ميدان يتشكّل “بين” الوحدة والكثرة. وهذا الحرص على فهم “البين” ورفعه إلى رتبة المقام التأويلي لفهم أنفسنا، ليس مقصدا أفلاطونيا ولا كانطيا. بل هو موقف “ما بعد ميتافيزيقي” أصلا. ونعني بذلك أنّه نقل لغة الإشارة إلى إنسانيتنا، من السؤال الميتافيزيقي “ما هو” الإنسان؟، حيث يغلب منطق “الوحدة“، إلى السؤال التاريخي “من؟” يكون الكائن الإنساني، حيث يحتدّ منطق “الكثرة” لأوّل مرة في معنى كينونة هذا الإنسان.
كيف يجدر بنا الآن، بعد أن بسطنا ملامح الحقل الإشكالي الذي تشير إليه عبارة “الإنساني بين الوحدة والكثرة”، أن نبني خطة المعالجة المناسبة للصعوبات التي تكتنف كل مستوى من مستويات تخريج هذه الإشكالية؟ من الممكن أن نقسّم المهام التي تطرحها خطة المعالجة كما يلي:
أ- بأيّ معنى يمكن اعتبار السؤال “ما هو الإنسان؟” هو الصيغة الكلاسيكية العامة، من أفلاطون إلى كانط، التي قامت عليها جهود الفلاسفة في تأمين اتساق محمود في معنى الإنساني بين الوحدة والكثرة؟
ب- إلى أيّ مدى نجح العلماء والفلاسفة المعاصرون بعد داروين في إعادة كتابة تاريخ الطبيعة البشرية، بوصفها طبيعة “متحوّلة”، ومن ثمّ في نقل صيغة البحث في الإنساني من صيغة “ما هو؟” إلى صيغة “من هو” الإنسان؟

ـ في دلالة الوحدة والكثرة :

إنّ اهتمام الفلسفة بمسألة الوحدة والكثرة لا يرتبط بسؤال ما الإنسان فحسب وإنّما يرتبط بكلّ المباحث التي انشغلت بها الفلسفة واشتغلت عليها، إلى درجة دفعت البعض إلى التأكيد على أنّ فهم مسالة الوحدة والكثرة هو المحدّد الأساسي والجوهري لأيّ مقاربة فلسفيّة، ولكن الإحراجات والتوتّرات التي تلازم السؤال عن الإنسانيّ في علاقة بمسألة الكثرة والوحدة هو الذي سيدفعنا للانشغال بالمسألة الأنتروبولوجية عامة وسؤال "ما الإنسان؟ " خاصّة؛ ولذلك يجب أن نقرّ مبدئيا بأنّنا نلج في هذا السجلّ عالما مترامي الأطراف يطال السؤال الأنطولوجي والسؤال الأنتروبولوجي، عالما قد يدعونا لاستحضار كلّ تاريخ الفلسفة ما لم نحدّد بدقّة المشكل الذي سنعالجه، بحيث تكون العودة للفلاسفة محاولة للإجابة على المشكل المطروح سلفا والذي نصوغه على هذا النحو: هل يقتضي القول بالوحدة نفي الكثرة؟ وإذا كانت الكثرة هي السمة المميّزة للواقع الإنساني فهل يدفعنا هذا الواقع إلى القول بأزمة الكلّي أو التشكيك فيه؟ وهل يفضي التشكيك في الكلّي إلى التشكيك في مطلب الوحدة؟ وهل يتعارض واقع الكثرة بالضرورة مع الوحدة المنشودة؟ اليس من الممكن التفكير في الإنسانيّ وجوديا وثقافيا في ظلّ القول بالكثرة والوحدة في آن؟

2 ـ الإنسانيّ وقلق السؤال: 

هل من معنى لوجود حكم عليه بالموت قبل أن يوجد؟
 الوعي بالموت هو طرف من أطراف تراجيديا السؤال الإنسانيّ، وإن كان هذا الوعي بالذات هو شكل من أشكال تميّزه؛ والمأساة تكمن في هذا التحوّل من إدراك للموت على أنّه الحكم النهائي الذي لا استئناف فيه إلى رغبة في الخلود، أي من الوعي بالنقصان إلى طلب الكمال، وهنا يصطدم الوعي بالعوائق التي تحرم الإنّية كمالها، فيتمّ إقصاء الجسد لأنّه يذكّرنا بالموت، ويتمّ نفي الرغبة لأنّها تدفعنا نحو الحيوانيّة، ويتمّ إقصاء اللاوعي لأنّه يفضح أحلامنا ويكشف الشذوذ الكامن فينا، فنعلن تطاولا وخوفا في كلّ مناسبة أنّها كثرة تعبّر عن الغيريّة، وأنّ الكثرة مرض لا يصيب الإنيّة بل يصيب الغيريّة. ولكن هذا التطاول والادّعاء بقدر ما يزيل الخوف من الموت يضاعف من جهلنا بذواتنا وإنّيتنا. وبقدر ما يذلّل التمزّق الوجودي والتراجيدي بقدر ما يضاعف أوهامنا.
« Jamais l’animal ne saura ce que c’est que mourir ; Et la connaissance de la mort et de ses terreurs est une des premières acquisitions que l’homme ait faites en s’éloignant de la condition animale ».
Rousseau : Discours sur l’origine de l’inégalité, première partie

هناك من يواجه التمزّق والقلق بالخلق والإبداع والسؤال، وهنالك من يواجهه بالوهم والنرجسية والادّعاء؛ لقد تحملّ بيتهوفن في نهاية حياته مثل هذا التمزّق بعد أن أصبح غير قادر على الإنصات للموسيقى التي يؤلّفها، وهي الفترة التي أنتج فيها أفضل إبداعاته الموسيقية، لا نعثر على مثال أكثر عدمية من هذا المثال حيث يتعذّر على الموسيقيّ الإنصات إلى الموسيقى التي يبدعها، ولكّنه مثال جيّد لأنّه يكشف عظمة الإنسان بالرغم من مأساويّة وجوده: فقد استمرّ بيتهوفن في إبداع الموسيقى التي لن يستمع إليها أبدا؛ كما يستمرّ الإنسان في الوجود الذي لا يقين فيه سوى الموت. وكأنّ كلّ واحد مّنا موسيقيّ أصمّ، قد تكفينا حجّة متواضعة لتثبت لنا يقينية الموت، ولكنّنا نواجه اليقين بالوهم وبالحلم وبالرغبة، ونختار في رفعة الإنسان وكبريائه الرجاء والأمل. فمع سؤال معنى الحياة ينضاف سؤال لماذا الوجود؟ لماذا هذا العالم؟ لماذا لم يكن عدما؟ هل هنالك غاية ما أو حكمة ما تختفي وراء الشيء حتّى لا يكون لا شيئا؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها تستعيد على سطح الوجود الإنسانيّ القلق الميتافيزيقي، الذي يكشف من جهة الإنسان ويظهر من جهة ثانية الشعور العميق بالوحدة الأنطولوجية، و ينتهي من جهة ثالثة إلى جملة من الرؤى تحاول أن تكسّر الهوّة بين الإنسان وما حوله، رؤى تصنع وعي الذات بذاتها وتحددّ موقع الإنسان في العالم، فتولّد الإنّية كبعد من أبعاد الهويّة الذاتيّة، وتولّد الخصوصيّة كوجه من وجوه الهويّة الثقافيّة، ووراء الإنّية والخصوصيّة يتحرّك باستمرار القلق الإنسانيّ، قلق منبعه وعي الإنسان أنّه ليس ما حوله، فهو إمّا أكثر بكثير أو أقلّ بكثير. لعلّ التفكير في الإنسانيّ إذا لا يختلف كثيرا عن التفكير في رؤاه، بل لعلّ الرؤى هي فرصتنا الوحيدة للالتقاء بالإنساني فينا، إذ "ما الإنسان؟" خارج أسئلته، تمثّلاته، تصوّراته وأوهامه؟ و"ما الإنّية" خارج إطارها الثقافي الذي تتشكّل على أساسه الخصوصية، ويتحدّد موقف الذات وموقعها؟ بل وما العالم ذاته إن لم يكن ما نراه وما نفسّر به ما لا نراه؟ ولأنّ الإنسان ليس مجرّد وجود في العالم، ولأنّ العالم ليس بالضرورة مجمل الأشياء هناك أمامنا، فإنّ الفلسفة وهي تفكّر في الإنسانيّ لا يمكنها إلاّ أن تفكّر في شكل حضوره وأن تفكّر في العالم كما تتمثّله الذات أو تتخيّله أو تسعى إلى تفسيره وفهمه. الإنسانيّ إذا لا يمكن الإحاطة به باعتماد بعض التعريفات والتحديدات وإنّما الإحاطة تأتي من تلمّس الأسئلة التي يوجّهها القلق في كلّ مكان. الإنسان الذي يسأل لماذا الشيء وليس اللاشيء؟ يدرك عبر مأساوية سؤاله أنّه لا هذا ولا ذاك، أنّه العدم أو هو كائن ممكن أو هو مشروع إنسان. يكون الإنسان انطلاقا من وعيه الخاصّ، طبيعته الخاصّة، وحسب قرار خاصّ، وعندها لن يكون الغريب أو الوحشيّ أو اللاإنسانيّ، إلاّ جزءا من هذه الطبيعة أو انعكاسا للقرار؛ وليس هنالك ما يبرّر الحديث عن اللاإنسانيّ إلاّ الإنسان ذاته، طالما هو بين هذا وذاك تحقّق وصيرورة وإمكان. لا يولد الإنسان إنسانا، وإنّما يصير كذلك، وهذا يعني أنّ الإنسان حريّة وأن للحريّة ثمن، وثمن الحريّة هو بناء إنّية يكون الإنسان جديرا بها. وعلى الإنسان أن يختار بين الإنّية والغيريّة الصورة التي يرتضيها لذاته، أي أن يتحملّ مهمّة بناء ماهيته، وإنتاج هويّته، إذ الإنسانيّ مهمّة الإنسان، حيث تكون حقيقته ما يحققّه أو ما يكون جديرا به. والحريّة قبل الهويّة أحيانا إذا كانت مجرّد إطار سكوني تتجمدّ فيه الإنّية وتفنى؛ والهويّة هي الإنّية أحيانا في اللحظة التي تدفع الإنسان للخلق والبناء.

3-طرح المشكل:

إذا كان فلاسفة الميتافيزيقا (ما وراء الطّبيعة) ابتداء من الفلسفة اليونانيّة مرورا بالفلسفة الإسلاميّة وصولا إلى فلسفة ديكارت يُقدّمون إجابة " ماهويّة " (ماهيّة الشيء ما يجعله هُوَ هُوَ) واحدة/ دائمة/ ثابتة/ هي هي/ مطلقة/ كاملة عن سؤال " ما الإنسان " فلأنّهم ينطلقون من بديهيّة/ مسلّمة (فكرة غير قابلة للمراجعة أو للشكّ) فلأنّهم ينطلقون من بديهيّة أنّ النّفس هي المحدّد لوجود الإنسان (هي المبدأ، هي الجوهر، هي الماهيّة) فلا تحتاج في وجودها إلى ما يغايرها.
 ولمّا كان أنصار العولمة يذهبون إلى الإقرار أنّ العولمي هو الكوني فلأنّهم ينطلقون من بديهيّة ومسلّمة أنّ "الأمركة " هي النّموذج الأوحد/ الأحسن/ الأكمل/ الأفضل لذلك يتعيّن على الهويّات الثقافيّة أن تُحاكيها. ولمّا كان أنصار " الألسنيّة " يذهبون إلى الإقرار إلى أنّ اللّغة هي " ملكة التّرميز " والنّظام الأمثل للتّواصل، فإنّ مثل هذه البديهيّات يجبُ مراجعتها والتظنّن فيها والارتياب في مصداقيّتها. إنّ سؤال " ما الإنسان؟ " يغيّب " الإنسانيّ " في الإنسان، يُغيّب الكثرة والتنوّع والاختلاف والتعدّد والغنى والثّراء والبنيويّة، ويحشرنا في زاوية أحاديّة الجانب (في إجابة واحدة دائمة ثابتة كاملة مطلقة) فيتغافل ويتجاهل الأبعاد الحقيقيّة للإنسان بما هو كثرة، لذلك يجبُ أن نتعلّم تجاوز:
الوحدة إلى الكثرة
الإنسان إلى الإنسانيّ
الانغلاق إلى الانفتاح
التّعالي إلى التّفاعل
التحكّم إلى المشاركة

- على مستوى الذاتيّة:

يجبُ أن نتجاوز وأن نقطع مع الموقف الميتافيزيقي الذّي ينتصر للوحدة على الكثرة ويكتفي بطرح سؤال: ما الإنسان؟ ويُقدّم إجابة ماهويّة وتتعالى الإنيّة على الغيريّة نحو الإقرار بضرورة انفتاح الإنيّة نحو إشكال الغيريّة والحاجة إليها والقول بالفاعل والوحدة المُتكثّرة، فنؤسّس سؤالا جديدا " ما الإنسانيّ ".

- على مستوى البينذاتيّة:

ولمّا قد تبيّن لنا أنّ الآخر ليس جحيما، بل شرط وجود الذّات. فيتعيّن علينا أن نستشكل الأدوات والوسائل والإمكانات والوسائط التّي يتواصل بها الإنسان. فنقطع مع دغمائيّة ووثوقيّة اللّغة (وحدها هي أداة التّواصل) لنكتشف وسائط مختلفة كالصّورة والدّين والأسطورة والفنّ. فنتجاوز الوحدة نحو الكثرة ونجسّم الإنسانيّ كتنوّع واختلاف وتعدّد.

- على مستوى " الهويّات ":

نجد أنفسنا قبالة مواقف يجبُ القطع معها مشدودة إلى فكرة الوحدة، كالهويّة التّي تعيش وحدها في عزلة/ تعصّب، وكالهويّة التّي تدّعي أنّها وحدها هي الكونيّ ' العولمة " لنكتشف أبعاد جديدة في المستوى الأنثروبولوجي (علم الإنسان) أنّه لا يجبُ المفاضلة بين الأعراق والأجناس ولا يجب الحديث عن العنصريّة وإنّما يجبُ الحديث عن التثاقف والتلاقح ومشاركة الجميع في بناء الثقافة الإنسانيّة.

4- رهانات طرح المسألة:

 إنّ ما نراهنُ عليه من خلال استشكال مسألة الإنسانيّ بين الوحدة والكثرة هو أن نتحرّر من منطق التحكّم والتّعالي والتّعصّب والانغلاق وتهميش الآخر، ونتعلّم منطق التّواصل والتّفاعل والانفتاح والتذاوت والتثاقف والتكامل، وهو ما من شأنه أن يجسّم إنسانيّة الإنسان.

ضمن أية حدود يتشكل الكلي كمبدأ ومطلب ورهان في إطار التفكير في الإنسان؟

يتعلق الأمر بداية بتجاوز البداهة الخادعة التي تجعلنا نستشعر وضوح وبداهة الجواب عن السؤال. بداهة زائفة وخادعة من جهة ارتباطها بالتجربة الحسية والذاتية المباشرة، إذ تنتهي هذه التجربة إلى إثبات وجودنا وتحديد لحقيقة هذا الوجود من خلال ما نستشعره من وحدة وتواصل ومباشرة حضور " الأنا" في خضم تجربة اليومي، وهو إحساس بحضور وبداهة هذه الأنا يجد إثباته في تماسك هذا الحضور رغم تغير حالات الأنا النفسية والجسدية وأشكال ارتباطها باليومي. تبرز المغالطة التي يقوم عليها هذا التحديد في إرجاع السؤال عن الإنسان إلى مستوى وجود حسي وجزئي ومباشر، يرتبط بتجربة وخصوصية تتقوم بما هو انفعالي وذاتي، من جهة أولى؛ ذلك إن كان هذا الرد وإن كان يقول لنا شيئا عن " زيد " أو عمر" بغض النظر عن قيمة ما يقوله، فان زيد أو عمر لا يمكن أن يدللا على ما يمكن أن يكون عليه الإنسان بإطلاق، الذي هو مطلبنا. أما من جهة ثانية فالمغالطة الثانية التي يقوم عليها مثل هذا التحديد فتتعلق بالتناقضات التي تحكم هذا الموقف ذاته. إن النظر إلى الإنسان بما هو ذات متعينة في فرد بعينه، مع افتراض وحدة وثبات أناه، وفي نفس الوقت ربط هذا الوجود بتجربة اليومي مع ما تفترضه من تقاطعات وعلاقات وثيقة بالعالم والآخر والجسد، يغفل عن تحديد مقومات هذه الأنا من جهة علاقتها بهذه المحددات التي يرتبط وجود الفرد بها. يتعين الإحراج في نهاية الأمر، إن عمدنا إلى إعادة صياغة الاعتراضات السابقة صياغة فلسفية، بالتساؤل عن حقيقة هذه الأنا بين حدي " الوحدة والكثرة"؛ وحدة تتجلى فيما أستشعره من وحدة أنايا واستمرارها وثباتها رغم تغير أحوالها، وكثرة تتجلى في ارتباط وجود هذه الأنا بأكثر من مجال ومستوى وعلاقة.. لا يتعلق السؤال عن حقيقة الأنا بين الوحدة والكثرة بالسؤال عن أنا فردية وعينية، ولكن بالبحث عن مقومات الوجود الإنساني ذاته. وبعبارة أكثر دقة ومباشرة يتعلق السؤال بتحديد ما يشكل حقيقة الإنسان من جهة تعيين ما يتمايز/يختلف به بشكل مطلق عن الوجود الحيواني، فيكون هذا التمايز هو أساس وضع الخط الفاصل بين الوجود الإنساني من جهة والوجود الحيواني من جهة ثانية. لا يتعلق السؤال، بالسؤال إذن عن أنا فردية وعينية وإنما يتعلق بالسؤال عن " الإنساني". يجب أن ننتبه في هذا المستوى إلى وقوع تحول أساسي في مستوى صياغة السؤال عن الإنسان من التفكير في مسألة الإنسان إلى التفكير في "الإنساني". فما هو مبرر هذا التحول في الصياغة؟ وماهي استتباعات هذا التحول في تحديد خصوصية ورهان الإشكال الفلسفي للتفكير في الإنسان؟
ارتبط السؤال الفلسفي تقليديا عن الإنسان بصياغة مخصوصة تسأل عن الإنسان اعتمادا على صيغة " ما هو الإنسان؟"، صياغة ستجد تعبيرها النهائي في التحديد الكانطي لرهان الفلسفة وسؤالها الأساسي الذي ترجع إليه بقية الأسئلة في سؤال " ما الإنسان؟". تفترض هذه الصيغة التفكير في الإنسان من جهة الماهية واثبات ماهية مطلقة ومتعالية للإنسان. غير أنه ومنذ لحظة هيغل المرتبطة بالتفكير في الإنسان في علاقة بالعالم والآخر سيصبح هذا التحديد الماهوي القائم على الصياغة الميتافيزيقية لسؤال " ما هو الإنسان؟" صياغة لا شرعية من جهة كونها لا تقبل التفكير في الإنسان ككثرة ايجابية. بذلك ستستعيض الفلسفة عن الصياغة الكانطية للسؤال عن الإنسان " ما هو الإنسان؟" إلى صياغة مستحدثة للسؤال هي صياغة " من هو الإنسان؟" صياغة، كما سنرى، ستسمح بالتفكير في الإنسان من جهة الكثرة المنفتحة وليس الوحدة المنغلقة، من جهة شروط وكيفيات تحقق الوجود الإنساني فعليا وواقعيا وليس النظر إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان. على هذا الأساس فان اعتماد مفهوم الإنساني عوضا عن صياغة أولى، تسأل عن الإنسان بإطلاق، إنما يحيل إلى هذا الوعي بما يكتنف المسألة من غموض وتعقيد. وهي محاولة لتشريع البحث في الإنسان انطلاقا من صياغة محايدة تحاول استشكال كلا المقاربتين للتفكير في الإنسان والتثبت من إمكان الارتقاء بالوجود الإنساني إلى مستوى الكوني وتحديد صعوبات واحراجات هذا المطلب.
إن ربط مطلب الكلي بالإنساني، وان بدا انه يتقدم بنا خطوة حاسمة في اتجاه مقاربة سؤال ما الإنسان، فانه لا يخلو من اشكال حين يكون حدي "الإنساني" تقابل مفترض بين "الوحدة" و"الكثرة". إذا كان معنى" الإنساني" يمكننا أن نتجاوز، لحظة، تعقيدات التردد بين صيغتين مختلفتين للسؤال عن الإنسان؛ بين صيغة "ما هو الإنسان؟" ذات الطابع الماهوي والأفق الميتافيزيقي الكلاسيكي، وصيغة "من هو الإنسان؟" الأكثر معاصرة، فان ربط الإنساني بحدين يفترض فيهما التقابل وليس التقاطع؛ "الوحدة" من جهة و"الكثرة" من جهة ثانية، يحيلنا إلى مزالق لا تقل حدة نظرا لما يترتب عن استتباع هذا التقابل على تحديد دلالة الكلي/الكوني سواء تعلق الأمر باستتباعات معرفية أو خاصة ايتيقية قيمية تتعلق بما سبق وان حددناه من رهان مركزي لمقاربة الفلسفة لمسالة الإنسان وتحديدا تعيين شروط العيش المشترك. إن ربط الكلي بالوحدة يربط "الإنساني" بما هو جوهري؛ فالإنساني يتعين كجوهر قائم بذاته؛ مطلق وثابت وهو تصور الإنسان الذي طبع تاريخ الفلسفة منذ الفلسفة اليونانية إلى حدود لحظة الحداثة مع هيقل، "حيث أنّ النفس لدى اليونان، مثلها مثل "الذات" أو "الأنا" لدى المحدثين، هي "جوهر" قائم بنفسه، أي هو "حامل" منطقي وأنطولوجي لصفات أو أعراض متعددة لا توجد إلا به، في حين أنّه هو مستغن عنها في استمرار وجوده لأنها ليست من مقومات ذاته". بذلك فان الإنسان يتقوم بماهيته وينظر إليه من جهة هذه الماهية التي يحملها. مقابل هذه الماهية، والتي سواء تعينت كنفس عاقلة عند القدامى، أو كذات أو أنا عند المحدثين فان الكثرة لا تتجاوز مرتبة ما هو عرضي. إن الكثرة، أن كانت داخلية؛ الجسد والرغبات والأهواء، أو خارجية؛ العالم والآخر، هي مجرد أعراض. فهي وان ارتبطت فعليا بالوجود الإنساني، وتعلقت بالإنسان فإنها لا تدخل في تعيين حقيقته لا على المستوى المعرفي ولا على المستوى الأنطولوجي، ذلك أن معرفتها كما وجودها يضلان مشروطان بمعرفة ووجود الماهية من جهة أولى، إما من جهة ثانية فان الجهل بمعرفتها أو وجودها لا يربك يقيننا في معرفة ووجود الماهية (سواء كانت نفس أو ذات أو أنا). إن تحديد "الإنساني" تحديدا ماهويا يرتبط بالوحدة ويستبعد الكثرة يتشكل معه مطلب الكلي ذاته ماهويا. يفترض هذا التحديد الماهوي للإنسان تراتبا داخل الوجود فليس للموجودات نفس المرتبة والمنزلة الأنطولوجية. وليس التأكيد على أفضلية النفس أو تعالي الذات غير بحثا يبتغي تأكيد واثبات رفعة المنزلة الإنسانية. فحقيقة الإنسان وجوهره، أي إنيته وفق هذا التصور، كما وجوده الفعلي، يشترط هذه الوحدة التي تتعين في ماهيته بما هو جوهر قائم بذاته ومكتف بها. أما "الخارجات"، وسواء كانت داخلية أو خارجية فهي "غير" وإطارها "الغيرية" أي غير "الإنساني" إذ لا يشترط في تحديد الإنساني حضورها، وهي بذلك لا ترتقي إلى مستوى الكوني/الكلي، بل إن منزلتها العرضية، تلك، تمثل من بعض الوجوه عائقا يحول دون تحقق الإنساني في الإنسان على وجه كلي/كوني. هذا الربط بين الانية ووحدة النفس العاقلة، داخل الفلسفة القديمة، أو الذات، داخل الفلسفة الحديثة، بحثا على إثبات رفعة المنزلة الإنسانية وشرفها، أو تأكيدا على فاعليتها، لا يمثل في ذاته مشكلا من جهة كونه رهانا ومطلبا مشروعا، إنما يعود الإشكال الحقيقي في السؤال عن مشروعية هذا الاختزال الذي يسم هذه الانية، والإمكان الفعلي والايتيقي لاستبعاد "الجسد" و"العالم" و"التاريخ" و"الآخر" من مجال تحديد الإنساني في علاقة بمطلب الكلي.
 إن تجليات الوجود الإنساني تبرز لنا وبشكل مباشر خصوصية هذا الوجود الذي هو وجود علائقي وتعددي. إذ أن التحديد السابق للإنية واشتراط إمكان إثبات وجود الأنا، ومعرفتها في تعلقه بضرورة اعتبار هذه الانية مطلقة ومتعالية وثابة، يضعنا أمام إحراج متعدد الطبقات. يمكن أن نختزل مجمل هذه الاحراجات فيما سبق وأن حددناه من مقتضى التفكير في مسألة الإنسان؛ أي ربط هذا التفكير بمطلب الكلي، بما هو بحث عن شروط إمكان التأسيس لمطلب العيش المشترك كرهان إيتيقي أقصى، هو أفق ومقتضى البحث ذاته، يستلزم، ضرورة رفض كل أنانة تقيم حاجزا بينها وبين الآخر. إن تحديد مقتضى العيش المشترك كأفق للنظر في الإنسان على أساسه يكون تناوله من جهة البحث عن الإنساني هو إقرار بكون مقاربة الإنساني تستلزم النظر في كثافة وجود الإنسان كثافة تتجلى في تعدد العلاقات التي يرتبط بها ويتداخل في ظلها وجوده وتتحدد بها ومن خلالها إنيته.
يرتبط النظر في " الإنساني بين الوحدة والكثرة"، إذن، بالتوتر القائم بين النظر للإنسان كهوية تعين تمايزه وتفرده يعود هذا التحول إلى الوعي بما يكتنف الوجود الإنساني من مفارقات ضمن مطلب الكلي. ذلك أن تحديد هذا الكلي في مستوى التفكير في الإنسان مربوط إلى التوتر القائم في مقاربة " الإنسان" بحدود مسألة "الوحدة والكثرة". فان كانت الوحدة تفترض في الإنية كحالة وجودية، تؤسس لما يجعل من الذات موجودا لأجل ذاته (بتعبير سارتر) متميز في خصوصية وحدته عن غيره، من أجل التفرد ضدا على التشابه والنمطية، على غرار نمطية الأشياء الموجود في ذاتها، من جهة والنظر لهذا الوجود باعتباره ثابت ومطلق ومتعال من جهة ثانية. ولكنها تنفتح به في نفس الوقت على وجوده كموجود في الوجود في بعده التعددي والعلائقي. بذلك تكون الكثرة حالة وجودية علائقي تخرج فيها الذات عن ذاتها المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها نحو التاريخ والجسد والغير، دون أن يعني خروجها هذا، خروجا عن ذاتها أصلا، وإنما هو خروج يمثل شرط إمكان معرفة ذاتها واثبات وجودها بما يحقق إنيتها.
هذا الربط بين " الوحدة" و" الكثرة" في تعيين "الإنساني " يستلزم النظر إلى الحدين لا على أساس التباعد والتنابذ وإنما التجاذب والتفاعل ايجابيا بما يثبت أن الانية لا تكون إلا "هوية مركبة". إن اشتراط تحقق الإنية بضرورة خروج الذات عن ذاتها، وانفتاحها على " الآخر"؛ "عالما" و"أنسانا"، بقدر ما يقيم وصلا بين الأنا" والغير ورفعه لدرجة الآخر الذي لا أكون إلا به، يستوجب النظر في تحديد شروط وآليات ومقتضيات التواصل التي تجعل من تأسيس الإنساني تأسيسا يراهن ويحقق مطلب العيش المشترك.
إن رد الوحدة إلى كثرة لا يعني تلاشي الأنا وضياعه في كثرة تطمس وحدته وتنفي تمايزه وخصوصيته، وإنما يعود هذا الرد إلى تأسيس وضع هذا الأنا في إطار ما ينسجه من علاقات تواصلية مع الآخر. يتعلق الأمر إذن بجدلية فصل ووصل؛ فصل يثبت للانية وحدتها وتفردها، ووصل يشرط هذه الوحدة والتمايز بالتواصل مع الآخر. يتحدد مفهوم التواصل بداية باعتباره المقتضى الذي بقدر ما يستبطن ويفترض الفصل وتمايز الأنا، يمثل في نفس الوقت شرط إمكان تحقق الوصل؛ إنه بهذا المعنى " وساطة" وجسر. التواصل الإنساني هو "وساطة" لا من جهة النظر إليه كأداة، وإنما باعتباره، في نفس الوقت، التجلي والمقتضى لتحقق الإنساني على وجه كوني.
 فالتواصل هو تواصل إنساني من جهتين: من جهة أنه يقيم خطا فاصلا بين الوجود الإنساني و"الطبيعة" إذ تشكل وسائط التواصل قطعا وتعاليا على مستوى الوجود الطبيعي الخام من خلال ما يضمنه من علاقة غير مباشرة بين الإنسان والطبيعة. فالتواصل بما هو خاصية إنسانية هو خاصية ينفرد بها الإنسان وتهبه نمط وجود يختلف جذريا عن نمط الوجود الحيواني. وهو تواصل إنساني من جهة ما يضمنه من إمكانات تحقق تواصل كوني بين الإنسان والإنسان. إن التواصل لا يلغي التمايز والاختلاف والتفرد، بل لعله لا يكون ممكنا أصلا، ولا ذا معنى دون الإقرار بهذا التمايز بين الأنا والآخر تمايزا يجعل من التواصل، في نفس الوقت ممكنا ومطلبا. إننا، وكما تبرز لنا ذلك تجربتنا الخاصة، لا نتواصل مع الغريب بإطلاق لانعدام إمكان التواصل أصلا، ولا نتواصل مع الشبيه بإطلاق لعدم الحاجة للتواصل معه كذلك أصلا التواصل لا يكون إذن إلا مع المختلف والذي يحوز منزلة بين منزلتين؛ منزلة الغريب ومنزلة المماثل. يتحدد التواصل بما هو إنساني في تشكله عبر وسائط رمزية هي "الأنظمة الرمزية". وهي وسائط بما هي جسور، بقدر ما تثبت وتعين وجود مسافة بين الأنا والآخر فإنها، وفي نفس الوقت، تجعل من قطع المسافة ممكنا والاقتراب من الآخر يسيرا.
إن هذا التواصل بما هو إنساني من حيث المجال والآليات والغايات إنما يتأسس على وحدة الإنساني ذاته. إمكان التواصل وتحقيق الالتقاء والتفاهم يضل مشروطا بداية بمقتضى الوحدة، وحدة تجد سندها في وحدة الوضع البشري، وخصوصية هذا الوضع، بما هو وضع متعال ومفارق يؤسس لوجوده بتحقيق انفصاله عن مستوى الوجود الطبيعي. وهو بتعيينه للمنزلة الإنسانية في قطعها مع مستوى الوجود الطبيعي، إنما يؤسس في آن واحد للانفتاح على الغير. يتجلى هذا الانقطاع فيما يميز علاقة الإنسان بالأشياء إذ تتحدد هذه العلاقة بما هي علاقة غير مباشرة تنتظم ضمن وسائط تكون هي الوسيط بين الإنسان والأشياء. إننا لا نقبل على الأشياء مباشرة ولكن بتوسط الرموز التي يصنعها الإنسان ويستحدثها فتكون علاقته لا بالأشياء في ذاتها وإنما بالرموز التي تحيل عليها. قد لا تكون مسألة التواصل على هذا القدر من الوضوح، ولا على هذا القدر من البساطة. إذا كان مفهوم التواصل يحيلنا بداية إلى عملية ثلاثية الأبعاد تتركب وتقتضي توفر ثلاثة معطيات مرسل ورسالة والمرسل إليه.
غير أن ما يجب الانتباه إليه هو مدى التعقيد الذي يلف هذه العملية في كل أجزائها، ذلك أننا وسواء تعلق الأمر بالمرسل أو المرسل إليه فإننا في الحالتين أمام ذات واعية أمام ذوات واعية. الذات المرسلة لا يتعلق فعلها بمجرد الإخبار المحايد وإنما تبحث من رسالتها على إحداث تأثير محدد في المتلقي تتحقق به مصلحة ما، بغض النظر عن طبيعة هذه المصلحة إن كانت مادية أو معنوية. والذات المتقبلة ذاتها لا تقبل الرسالة على أساس من الشفافية المطلقة وإما من خلال عمل تأويلي يسبغ على الرسالة، عن قصد أو دونه، معطيات ذاتية تبتعد قليلا أو كثيرا عن مقصد المرسل. والرسالة ذاتها غالبا ما لا تكون واضحة وأحادية المعنى، لا من جهة الالتباس التي يحكمها في علاقة بمقاصد المرسل أو تأويل المرسل إليه، وإنما في علاقة بطبيعة قناة الاتصال التي تحمل الرسالة، والتي تؤثر في مضمون الرسالة حسب خصوصية قناة الاتصال ذاتها. إن مجمل هذه التعقيدات تلبس مسألة التواصل كثافة إشكالية مركبة من جهة تعدد المفارقات التي تشقها وتنوع الرهانات التي تعمل على التأسيس لها. تبرز أهم هذه المفارقات، من جهة راهن المسألة، فيما هو مفترض في التطور التقني لوسائل الاتصال من تيسير لإمكانات التواصل بشكل لم تعهده البشرية من قبل، غير أن هذا التطور التقني ذاته أضحى في حضارتنا المعاصرة المرتبطة بتنامي النزعات الفردية وغلبة المصلحة والمنفعة الشخصية أداة وتجليا لواقع الانفصال والعزلة ورفض الآخر. إن مثال الانترنت يعد في هذا الإطار أبلغ مثال لواقع المفارقة هذا؛ فعالم الانترنت بقدر ما يتيح لنا إمكانات اللقاء مع الآخر خارج حدود الثقافة والجغرافيا فانه، وفي نفس الوقت، يعزل الفرد عن الآخرين، حتى أقرب أقربائه. والحال ذاته يصح على السيارة التي وان كان مفترض فيها أن تجعل من التواصل أيسر وأسرع فان السيارة ومع تزايد وسائل الرفاهية داخلها تخلق عالما خاصا وحميميا يعزل السائق والراكب عن الآخرين. بالإضافة لهذه المفارقات، فان رهانات التواصل ذاتها لا تقل تناقضا.
 إن التواصل بقدر ما يمكن أن يشرع للالتقاء مع الآخر وتحقيق التفاهم معه، فان التواصل كذلك يمكن أن يراهن على السيطرة والهيمنة على الآخر. إن تجاوز هذه المفارقات يستوجب النظر في دلالة التواصل ذاته، وتبين الخصوصية التي تؤسسه، وفي نفس الوقت، تشرعه في إطار مطلب الكوني. يتشكل التواصل مع الآخر، ضرورة بما هو آخر، من خلال وسائط. فما هي طبيعة هذه الوسائط التي تحقق إمكان التواصل مع الآخر؟ يتحدد التواصل الإنساني في علاقة مع جملة من الوسائط الرمزية من لغة ودين وصورة فهل يمكن لأنظمة التواصل هذه أن تحقق تواصلا كونيا يحقق الإنساني على وجه كلي ويضمنه أم أن أنظمة التواصل هذه تمثل خطرا وتهديدا حقيقيا لمطلب الكوني حين تكون أدواتها المغالطات بكل أشكالها ويكون رهانها التحكم والسيطرة؟
يتعلق الأمر إذن في نهاية الأمر بتحديد إيتيقا التواصل بما يكرس العيش المشترك. لا يتعلق مطلب العيش المشترك بمستوى وجودنا الفردي حصرا، وإنما يتجاوزه إلى مطلب العيش المشترك في إطار الوجود الثقافي المشترك والعلاقة بين الثقافات المختلفة. إن هويتنا وان كانت أساسا هوية شخصية تفترض وتطلب إيتيقا تواصل، مع هوية شخصية مغايرة، تتأسس ذاتها في رحم الهوية الثقافية التي ينتمي لها الشخص، بذلك يكون وجودنا وجود ثقافي بالأساس. إلا أن دلالة الثقافة التي نقاربها في هذا المستوى لا تختزل في مقابل ما هو طبيعي، وإنما تتشكل في إطار " الهوية الثقافية" لمجموعة بشرية محددة. يلتبس هذا الوجود الثقافي للإنسانية بمفارقات متعددة؛ فبقدر ما يحمل الإنسان داخله من نزوع نحو الكوني يربطه بالإنسانية جمعاء، يؤشر على الوحدة، وعلى الوجود النوعي للإنسان في تمايزه عن الوجود الحيواني، فان واقع الوجود الثقافي الإنساني ذاته يتشكل في إطار كثرة متعين في تعدد وتنوع الثقافات. فكيف نفهم هذا الاجتماع في الإنسان بين واقع الكثرة؛ كثرة الثقافات وتنوعها ومطلب الوحدة؛ وحدة الثقافة الإنسانية ورهانها المتمثل في مطلب العيش المشترك المشروط بتكريس هذه الوحدة؟ إننا بصدد مفارقة قوامها واقع الخصوصية ومطلب الكونية. وحين ننظر للواقع الإنساني وما يفرضه من وحدة حقيقية لتجاوز مشاكل الحروب والصراعات الدامية والتلوث البيئي والتسلح اللذان يهددان وجود البشرية من جهة، وتنامي روح التطرف القومي والتعصب الديني والهيمنة والسيطرة بأشكالها المتعددة السياسية والاقتصادية والثقافية ألا يجعل كل ذلك من النظر في المسألة أكثر من مبرر وإنما ضرورة لا يمكن تحقيق مطلب العيش المشترك إلا في إطارها؟
إن تحقق الإنساني على نحو كوني مشروط إذا بامتحان مدى قابلية التحديد الذي يمكن إن نظفيه على دلالة هذا الإنساني بضمان العيش المشترك بشكل يتوافق مع رهان الكلي أي فضح جميع الوضعيات التي لا تجعل من الإنسان قيمة مقدسة ولا تجعل من قيم الحق والعدل والجمال والخير قيما مطلقة تؤسس الوجود الإنساني وتضفي عليه المعقولية.






تعليقات

  1. Online Casinos - Oklahomacasinoguru
    Are you searching for the best communitykhabar online casinos in Canada? Check poormansguidetocasinogambling.com out our list of the top 10 casino sites oklahomacasinoguru.com for 바카라 players from Canada. jancasino카지노

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية