قيل لا وجود لانسان باطني

الموضوع :  "قيل لا وجود لإنسان باطني "   حلّل هذا القول وناقشه .

يبدو ان الظّفر بكّنه الانساني في الانسان امرا عسير المنال ذلك ان المقتفي لهذا الامر يرصد تمنع هذا الكائن عن كل تحديد بل انه يدرك ان الانساني يتيه بين باطني خفي قد نعجز عن الامساك بمعناه المباشر وبين ظاهر قد لا ينكشف الانساني من خلاله إلا عبر الية الظهور ولكن ألا يمكن لهذا الذي يظهر ان يكون هو ما يشكّل الانساني في الانسان فعلا ؟ ثمّ ما الذي يبرر رفضنا لفهم الانساني انطلاقا ممّا هو باطني ؟ وإذا ما كان الظاهر هو ما يعكس حقيقة الانسان فإلى اي مدى نجح في ذلك ؟ ألا يمكن لهذا الاحتفاء بالمايظهر ان ينقلب الى احتفاء بالمظهر وبالتالي يمثّل عقبة امام المعنى الحقيقي للإنساني واستنزافا لثرائه المعنوي ؟  
انّه لحريّ بنا ان نشير الى ان معالجة دقيقة لهذا الموضوع من شأنها ان تحيلنا على مراجعة جوهرية لفهم الانساني في الانسان في اتجاه التركيز على ما يظهر منه من سلوك وإيماءات جسدية مفعمة بالمعنى ونبذ مبدأ الاقتفاء لباطن انساني مزعوم قد لا نجني من ورائه سوى اوهام ميتافيزيقية وهذا ما ييسر للإنسان في مرحلة موالية حسن توظيف البعد المظهري لديه باعتباره يعكس ما هو انساني فيه وذلك بمناى عن كل توظيف سلبي او بهرج له .
يرتبط مفهوم الانسان الباطني – وهو المفهوم المركزي في الموضوع - بما هو خفي ومتواري اي ما وراء الظاهر والمحسوس ويمكن ان نفهم هذا الامر على ان الانسان ينطوي على بعد خفي / عميق هو ما يحدد ماهيته وهذا الفهم لما هو انساني في الانسان يمكن ان  نستشفه في مستويين  فمن ناحية اولى يحيلنا الى دلالة الانسان كما تراه الميتافيزيقيا القديمة والحديثة ومن ناحية ثانية يحيلنا الى الذات العميقة التي تتحكم في السلوك الانساني كما تجلت مع التحليل النفسي الفرويدي اي انه يشير الى مكانة اللاوعي بما انه يمثل بعدا باطنيا وأساسيا في تحديد ما هو انساني في الانسان ولكن الموضوع الذي نحن بصدد تحليله لا يقرُّ بضرورة وجود هذا البعد الباطني وإنّما ينفي ذلك وهذا ما ندركه من خلال اداة النّفي "لا" الواردة في بداية الموضع وفي هذا النفي للإنسان الباطني نحن نرفض ان يكون ثمّة في الانسان بعدا خفيا لا يمكن ان يكتشف في ما يظهر إلا ان هذا الامر يدفعنا الى التساؤل عن مبررات هذا الرفض اذ ما الذي يدعونا الى نبذ الانسان الباطني اذا كان الواحد منّا يستشعر وجوده في ذاته ؟  
ان المتأمل في نص الموضوع قيد الدرس يدرك انه يسلم ضمنيا بان حقيقة الذات الانسانية ليست في علاقة بما هو باطني علينا تأويله قصد استكشافها وإنما هي مرتبطة بما هو ظاهر علينا ملاحظته ذلك ان ما هو باطني في الإنسان غير قادر على كشف الإمكانات الحقيقية والفعلية للإنسان بل ان القول بالإنسان الباطني يسقط الانية في اوهام ميتافيزيقية تبنيها حول ذاتها كما هو الامر مثلا بالنسبة الى القول بالإنية اللامتغيرة والتي تتميز بالثبات الدائم وهي اوهام ينجر عنها القول بتعالي الإنية وبالتالي رفضها للاختلاف والغيرية بكل معانيها ومستوياتها واعتبار الكلّي الانساني جوهرا وليس علاقة يمكن ان تقام بين الذوات كما ان الكوجيتو المنبثق عن هذه الإنية المنغلقة على ذاتها قد بدا بمثابة المعطى اللّغوي الصوري والفاقد لكل محتوى انطولوجي وهذا ما افضى بنا الى انية مفقّرة ومُقفرَة خالية من كل معنى .
هذه مبررات رفض الانسان الباطني على المستوى الفلسفي الميتافيزيقي اما على مستوى رفض الانسان الباطني في معنى الأعماق اللاواعية للذات الانسانية كما بين ذلك التحليل النفسي الفرويدي فإنّ هذا البعد الخفي الذي يحرك السلوك الانساني قد جعل الأنا في خضوع تام لسلطة الاخر / اللاوعي وهذا ما قد يفضي بنا الى تغييب الحرية الانسانية وبالتالي نفي المسؤولية عن كل افعال الذات الانسانية كما انه يحيلنا الى إنية تعاني من الهشاشة والتفكك والتصدع لذلك وجب رفض الانسان الباطني ومن ورائه كل الآليات الخفية التي تمثل حتمية في تحديد الإنساني في الانسان ولكن من يفكر في هذا الموضوع يجد ان البحث عن بديل للإنسان الباطني يظلّ يلحّ علينا فإذا لم يوجد الانسان الباطني فما الذي يوجد اذا ؟
ان من يقول بأن الانساني في الانسان يخضع الى باطن هو بمثابة المحرك الذي يحدد كلية الفعل الانساني انما ينطلق من اعتبار الجسد سطحي اي مظهر الوجود والحال ان الجسد هو ظهور الوجود في حدّ ذاته ذلك أن المظهر يتعلّق بالبهرج الجسدي ولا يتعلق بالوجود بما هو تجربة معنى في حين أن الظهور إشارة الى ان الإنية تجد حقيقتها في كيفية ظهورها وتجليها في العالم عبر الجسد الذي هو حياة ورمز وهذا المعنى هو ما اشار اليه ميرلوبنتي ،اذ ان كل ما يوجد في العالم انما يستمد دلالته من الجسد الخاص واهب المعنى في الوجود،فالعالم ليس الذي أفكر فيه بل الذي أعيشه لأنــي منفتح على العالم عبر الجسد الخاص ذلك أن الإدراك ما هو إلا علاقة أو معية قائمة بين الذات والعالم لذا فإننا نجد ميرلوبونتي يؤكد ان الجسد الخاص يعتبر هو ما يمثل الأساس في عملية الإدراك اذ هو مركـز التقاء الخبرات ذلك أن خبرة الإدراك بالضرورة هي خبرة الجسد فجسدي هو من يدرك الأشياء والآخرين وكذلك العالم . وقد رأى ولينس Waellens في كتابه " فلسفة الالتباس" ان الجسد الخاص هو وسيلتنا للاقتراب من العالم وفي الوقت نفسه وبالتلازم هو طريقـــــــة ثابتة لظهور العالم ذاته إذ هو بمثابة مشروع وجودي لميرلوبونتي فالجسد الخاص ينفتح على ذاتـه وعلى الإدراك وعلى العالم هكذا نستنتج أن فينومنولوجيا الجسد والإدراك مرتبطة بصفة مباشرة بالعالم على أساس الوعي الجسدي الخاص لذا نجد أن الجسد وانطلاقا من هذا الوعي يعبر عن علاقته بالعالم من خلال حركات وأعمـال معينة وضمن هذا الاطار نفهم قول ميرلوبنتي التالي :    " أكون جسدا قائما في العالم" وهذا القول يشير الى ان الجسد له خبرته الخاصة بالعالم مرورا بوعيه الذاتي وحتى نوضح أكثر نقول أن لكل واحد منا وعيه الخـاص بامتلاكه لجسد خاص وهذا الــوعي هو نقطة الانطلاق نحو هذا العالم وإذا ربطنا هذه الفكرة بفكرة "البينذاتية" (é Intersubjectiv ) نصل إلى حالة عامة نشترك فيها بوعينا بأجسادنا وحضورنا في العالم وخبرتنا التي لا تتوقف ومادمت مرتبطا بهذا العـالم ارتباطا جسديا فإني أدرك مـا يظهر فيه مـن أشياء باعتبار وقوعها في مجــال إدراكي الجسدي وتحت نظرتـي فالشيء هو جزء من تمثلاتي المتجسدة في العالم ان الجسد الخاص بهذا الاعتبار يمثل " قدرة التعبير الطبيعية " بل إن كل ما هو موجود في العالم في حاجة دائمة إلى جسدي الخاص لكي يوجد  وبذلك يتسع المجـــال الإدراكي ويشمل كـل ما في العالم وذلك على اعتبار أن الجسد مدرك ومدرَك ذلك أن هذا الشيء الذي ندركه ليس أكثر من تعيين أو تحديد جسدي لأن ما هو موجود حولنا من أشياء يكون هو العالم نفسه  وقد مارس عملية الظهور امام اجسادنا التي تمثل "الوسيلة العامة لرؤية العالم " على حد تعبير ميرلوبنتي في " فينومينولوجيا الادراك " ان الجسد الخاص بما هو قدرة التعبير الطبيعية يحقق المعنى في الإيماءة أو الإشارة بالنسبة إلى الآخرين ثم إن هذه العلاقات التعبيرية التي يكونها الجسد هي ما تظهره كوحدة رمزية مختلفة بما أننا موجودون في العالم في إطار حلقة تعبيرية هكذا ومن خلال الخبرة التعبيرية فإن الجسد هو هذا الشيء الملتبس الذي يستخدم أجزاءه الخاصة كرموز عامة من خلالها نتعامل مع هذا العالم فالجسد بما هو مدرك وبما هو موضوع إدراك يرتبط بالعالم كما تجدر الاشارة الى  أن الإيماءة الجسدية تتضمن معناها أي أنها هي المعنى لتظهر لنا علاقة العلامة بالجسد وقد رأى ميشال فوكو في دراسته لتطور النظرة الطبية في الغرب أنه في مرحلة الطب العيادي ارتبط المرض باللغة فنوع المرض هو الدال وأعراضه على الجسم تمثل المدلول وهذا يحيلنا الى أن الجسم هو ما يجسد لنا نوع المرض ان هذه الاشارة التي قدمها فوكو في ما يخص مكانة الجسد في تحديد نوعية المرض  انما تنم على تأكيد ميرلوبونتي على ان القدرة التي يمتلكها الجسد انما هي قدرته التعبيرية وقد أشار إلى ذلك في مؤلفه "  نثر العالم" حيث يرى أني عندما أتلفظ بكلمة فان كل أعضاء جسمي تتجمع من أجل النطق بتلك الكلمة وكأن جسمي كله ينطق بها مثلما تلتقط يدي شيئا ما إن ميرلوبونتي ومن خلال تأكيده على الخاصية التعبيرية للجسد يسعى للكشف على أن كل أساليب التعبير المختلفة ما هي إلا أساليب الجسد الخاص التي يتخذها للانخراط في العالم لأنه لغة طبيعية ومما سبق كذلك يمكننا تأكيد أن الجسد بصفته وعينا الخاص وانخراط ووجود في العالم يكون هو أساس ومصدر ما يوجد في العالم من معنى بل إن الجسد في حد ذاته هو المعنى وإذا كان فيلسوف الوجودية سارتر يرى بأنه محكوم علينا بالحرية بحكم أن الإنسان مشروع دائم التجديد فإن ميرلوبونتي يرى" أنه محكوم علينا بالمعنى " وهي مقولة أكد عليها ميرلوبونتي نظرا إلى وجودنا المتجسد الواعي في هذا العالم فلا نحن مقذوف بناء في هذا الوجود ولا نحن في قلق دائم ومستمر وإنما نحن ذوات تحيى مع ذوات أخرى في إطار وجود واحد هو الوجود في العالم .
لا شك ان البحث في مسألة تجلّي الوجود الانساني قد ساهم في تخليصنا من عدة اوهام ميتافيزيقية كما انه كان حافزا لاكتشاف امكانات الجسد في تحديد المعنى وهذا ما خوّل لنا ان ندرك ان الانية بما هي في العالم هي بالأساس علاقة ولا يمكن بأي حال من الاحوال ان تكون جوهرا ان هذا المشهد للفعالية المتجسدة في العالم كان قادحا للانفتاح على منظوريات جديدة لفهم الانية والوجود الانساني كمهمة اضافة الى انه اعاد الاعتبار للغير عبر الاستعاضة عن الذاتية بالبينذتية غير انه رغم هذه المكاسب المتحققة فانه علينا ان ننتبه الى مخاطر المبالغة في اقصاء كل ما هو ميتافيزيقي وتوجيه الكينونة والانهمام بالذات الى ضرب من الانهمام بالجسد حيث يكون الاعتناء بالجسد مدخلا لتعميق اغتراب الذات واختزال وجودها في بعد واحد حيث يتحول معنى الظهور في دلالته الانطولوجية والرمزية الى ضرب من ضروب البهرج الجسدي لما هو نواة الثقافة الاستهلاكية وتكريس الانسان ذو البعد الواحد بالمعنى الذي قصده هاربرت ماركيز في نقده للحضارة المعاصرة كما ينبغي ان نحذّر من تبعات القول بالانية كصيرورة حيث يفضي ذلك الى تلاشي الانية وإقحام الذات في متاهة حركة هوية لا تستطيع ان تكون هي وكأن الانية في حالة ذوبان دائمة في الغيرية .
قد نثمن الافق البينذاتي الذي فتحتنا عليه الفينومينولوجيا ولكن يبقى علينا مع ذلك الاقرار بان التعالق بين الذوات ليس حلاّ نهائيا لمشكلات علاقة الانا بالآخر فمثلما ان الاعتراف الهيغلي لا يؤمن الغاء الصراع بين الذوات والطابع الاستحواذي على الغير فان التعالق الفينومينولوجي دون افق اتيقي يجعلنا بمنأى عن تحصيل شروط امكان تحقق المشترك الانساني الذي يفترض قرارا اتيقيا وليس قرارا نظريا قد لا يتجاوز حدود الحديث عن ما يجب ان يكون كما انه ينبغي ان نشير الى ان نقد الانسان الباطني لا يكفي لتجاوز مفارقات الهوية الشخصية ومفارقات الانية باعتبار ان النقد النيتشوي او الفينومينولوجي للوعي لم يغادر براديغم الوعي رغم اعتنائهما بالجانب الرمزي الذي سينتظر ارنست كاسيرر كي يتحول الى براديغم الفلسفة المعاصرة براديغم الرمز وسينتظر بلورة مفهومالهوية السردية من حيث هو مفهوم قادر على استيعاب تناقضات ومفارقات الانية الانسانية وترددها الدائم بين الثابت والمتحول وبين الهوية تطابقا والهوية إنّية  .
ان المتأمل في الاشكال الذي نحن بصدد معالجته لا يعسر عليه ان يدرك مدى راهينية المسألة المطروحة وارتباطها بواقعنا المعيش ذلك ان الفصل في حقيقة البعد المظهري لدى الموجود الانساني – ان كان ليس إلا  بعدا خارجيا لا يعكس حقيقة الانسان الباطنية او هو عين الانسان في حدّ ذاته – هو السبيل الوحيد والأمثل لفهم حقيقة هذا الكائن وادراك القيمة الانطولوجية و الاتيقية التي يحظى بها .      

ان ما يجدر الاحتفاظ به في نهاية هذا التحليل هو ان الوجود الانساني لا يمكن ان يفهم في اطار الاختزال في ما هو باطني لان في ذلك تهميشا لبعده المظهري وهو بعد اساسي في الوجود الانساني كما انه لا ينبغي ان يقتصر في فهمه على ما يظهر حتى وان كان هذا الظهور يمثل التجلي الفعلي له باعتبار ان الانسان له بعدا باطنيا يساهم في تشكيل الانساني فيه بل ان هذا البعد قد يلقي بآثاره حتى على البعد الجسدي لدى الانسان ، ان هذا الامر يفيد ان الكلّي الانساني في الانسان لا يمكن ان يكون إلا مراوحة بين الداخل والخارج بين النفسي والجسدي .     

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية