قيل : " ان اللغة اخطر النعم " حلل هذا القول وناقشه

الموضوع :  قيل " إنّ اللّغة أخطر النّعم "
حلّل هذا القول وناقشه.

   إذا كان من بين اهمّ الحقائق الفلسفيّة المعاصرة الّتي تضاهي من حيث وضوحُها البداهات العقليّة، أنّ قاع الوجود رمزيّ وأنّ الإنسان حيوان رامز،إذْ قُدَّ من رمز ولا ينتج إلاّ الرّمز ولايستهلك إلاّ إيّاه، فإنّها لا يجب أن تُعمينا عن رؤية الطبيعة المزدوجة لما يحدث في عالم رمزيّ،لأنّ عالما كهذا لايكون إلاّ عالم مفارقات لعلّ من أخطرها مفارقاتُ اللّغة الّتي لاشكّ انّها من بين النّعم إلاّ أنّها اكثرها خطورة. ألسنا إزاء مفارقة تجعلنا بمنأى عمّا شاع من آراء حول اللّغة كنظام رمزيّ؟ ولمَ لاتكون اللّغة كذلك وقدْ نتبيّن من أمرها أنّها لا تمثّل استثناءً بالنّظر الى سائر ما اخترعه الإنسان من أدوات ووسائل بحيث ينقلب السحر على السّاحر؟ ففيم تكمن مخاطر اللّغة؟ والامَ يجب إرجاعها: للّغة فحسب أم لتوظيفاتها واستعمالاتها ضدّ غاياتها؟ ولكن ما السّبيل الى التّقليص من حدّة تلك المخاطر النّاتجة عن عجز ما باللّغة والنّاتجة عن استعمالها ايضا؟             
  لقدْ مثّل اصل نشأة اللّغات سؤالا يكاد يكون معضلة لاتجد فلسفات اللّغة منفذا لتجاوزها. ومع ذلك، سواء علينا أرجعنا اختراعها إلى الحاجة او إلى الإنفعالات،فإنّ اللّغة نعمة من النّعم بل إنّها تعبّر عن اعمق تجلّيات تحقق ملكة التّرميز لدى الإنسان، وهي "النّظام الرمزيّ الأكثر اقتصادا" من بين سائر الأنظمة الأخرى. واختراعها نعمة بكلّ المقاييس، لجهة أنّها ما يُخرج الذّات من جحيم العزلة، إذْ لايوجد الكلام إلاّ لوجود تقاطب اساسيّ بين الأنا والأنت، ولعلّ عبارة غسدورف:" لأنّني اتكلّم فأنا لست وحيدا" تعلن عن الترابط الوثيق بين اللّغة وخلاص الفرد من وحشة الوحدة. وإنّها بالإضافة الى ذلك تتيح للإنسان تملّك ذاته وتملّك العالم وتملّك الأشياء. إلاّ أنّ هذه النّعمة لا تخلو من مخاطر ومزالق، نجلوها ضمن مظاهر متعددة لعلّ أهمّها القصديات الّتي يتضمنها كلّ خطاب بين الأنا والآخر، إذْ انّ القصدية ايتيمولوجيا تعني توجيه توتّر الى الغير ومكمن هذا التّوتّر تعدد معاني المفردات وتغيّر معانيها بتغيّر السّياقات ممّا يفضي الى ضرب من سوء التّفاهم بين المتخاطبين، فاللّغة لاتكتفي بأن تكون وسيطا بريئا بين الأنا والآخر بحيث تحمل المعنى الّذي نقصد تبليغه وإنّما تتكلّم معنا، إذْ تنتج معاني اخرى من شأنها ان تشوش على المعنى المقصود. بل انّ اللّغة لاتحول بيننا وبين الآخر فحسب بقدر ما تحول بيننا وبين ذواتنا وبيننا وبين العالم. أليست اللّغة خطيرة فعلا حينما تحرمنا من ادراك تجاربنا الأكثر حميميّة وحينما تحول دون رؤية الأشياء ذاتها؟    
   إنّ سلطة الكلمات ترسم للذّات حدودا هي عينها حدود اللّغة الّتي تفرض على الفرد ألاّ يدرك من تجاربه العاطفية والوجدانيّة والنّفسية من حيث هي تجارب شخصيّة إلاّ الجانب غير الشخصيّ منها،ذلك انّ كلّ فرد حسب برغسون يحبّ ويكره بطريقته الخاصّة ولكن اللّغة إذْ تعبّر عن ذلك تُفقدُه كلّ خصوصيّة إلى حدّ  قد نلتجئ معه الى الصّمت لعلّه يكون ابلغ.وأمّا عن علاقتنا بالأشياء فلأنّ هناك كلمات فإنّا لانراها بل لانرى منها إلاّ ما تراه اللّغة الّتي لها من القدرة اذن ما يجعلها تتوسل بنا بدل ان نتوسل بها.فنحن "حينما نتكلّم لسنا نحن من يتكلّم وانما لساننا هو الّذي يتكلّم بداخلنا" اليس هذا ما انتهى اليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو؟ وهو ماينبغي ان ننتهي اليه نحن ايضا ضمن هذا السّياق النقدي لمخاطر اللّغة من حيث هي سلطة تحتّم علينا نظرتنا الى العالم وتحددها سلفا طالما انّ اللّسان سابق على الفرد.
  هكذا نتبيّن انّ للّغة طبيعة مزدوجة وانّها سلاح ذو حدّين وانّها لَعجيبة حقا من جهة قدرتها على الإفلات من قبضة صانعها الّذي يفقد ازاء سلطتها وازاء الحدود الّتي ترسمها كل قدرة. فماذا بمستطاع الإنسان إزاء مخاطر اللّغة؟ ولكن ماذا بمستطاعنا إزاء المخاطر الّتي لا تتأتى عن اللّغة في حدّ ذاتها لتتأتى عن استعمالاتها؟
 يثير السّؤال الأخير التّفكير في محدودية المعطى الّذي كنّا بصدد تحليله والّذي اوحى لنا بمعنى من المعاني انّ الخطر يكمن في اللّغة في حدّ ذاتها وهو امر لاننكر اهميته من جهة كونه يدعونا الى النّظر في المحاذير اللاّزمة ازاء عجز اللّغة والبحث عن سبل تفعيل اقتدارات الكلمة بأدوات لغوية ايضا كأن نحوّل السّمع بصرا ونكثّف من استخدام المجازات وغيرها من سبل الإبداع اللّغويّ، إلاّ انّه لا يجب أن نرجع كلّ المخاطر الى اللّغة والحال انّ الأخطر من مخاطر اللّغة في حدّ ذاتها ما ينجرّ عن استعمالاتها اللاّتواصليّة من قِبَل الإنسان الّذي يوظّفها  إقناعا وتّأثيرا ومغالطة وكذبا وعنفا وقصفا للعقول وتعميّة عن الحقيقة وصناعة للرأي وتحويلا لوجهة فكرٍ وتعتيما واخفاء وتمويها.
  إنّ الأشدّ خطورة من سلطة اللّغة هو لغة السّلطة الّتي تمارس عنفا رمزيّا تمتدّ مظاهره من التّوظيفات اليوميّة للكلمة والكذب الإجتماعيّ إلى النّفاق السّياسيّ واصابة عقول الحشود بنوع من العطالة. وليس التفطّن إلى مخاطر التّوظيف السّلطويّ والتّسلّطيّ  للّغة أمرا حديثا أو معاصرا، إذْ كان ارسطو يشبّه منذ زمن بعيد تأثير الخطابة بتأثير المخدّرات، وكان افلاطون يصفها بالتملّق.
  غير انّ مخاطر استعمال اللّغة تبقى أقلّ حدّة ممّا يمكن ان ينجرّ عن التّوظيف السلطوي والإيديولوجيّ لأنظمة رمزيّة اخرى كالمقدّس والصّورة الّتي مثّلت اسطورة العصر. فالتعصّب الدّينيّ يحوّل المقدّس من اداة لامتصاص العنف الى عنف مدنّس قدْ لا نعرف سبيلا لإيقافه على نحو ما يحدث راهنيّا مع ما يسمّى بالإرهاب الّذي يعبّر عن اخطر التّوظيفات الأيديولوجيّة للمقدّس وامّا الصّورة اليوم فإنّها العلامة المميّزة لعصر يتفاقم فيه التّناسب العكسيّ بين نجاعة وسائل الإتّصال وأزمة التّواصل، هو عصرنا، الّذي أصيب معه الرّمز بـ"عرج" على حدّ عبارة بودريار الّذي ادرك انّ الصّورة دالّ بلا مدلول، إذْ هي لا تحيل على شيء وإذا احالت على واقع فإنّه لن يكون إلاّ واقعا استشباحيّا.
علينا ان نستعيد السؤال المتعلّق بمستطاعات الانسان امام مخاطر اللّغة  ومخاطر استعمال الأنظمة الرمزية على وجه العموم استعمالا عنيفا حتّى ننتهي الى القول بضرورة اتّخاذ قرار ايتيقيّ من شأنه ان يوجّه الكلمة والصّورة والمقدّس وغيرها من الرموز الوجهة المثلى بحثا عن تحقق ما هو انسانيّ ونقصد التّواصل الّذي لايمكن ان نتحدّث عن شروط انسانيّة للوجود البشريّ دونه ولعلّ هذا ما تفتحنا عليه المقاربات الفلسفيّة المعاصرة حيث ترتسم معها ملامح عقلانيّة تواصليّة وتداوليّة تضبط مع هابرماس مثلا الكلّيات التّداوليّة الّتي من شأن الالتزام بها ان يقلّص من تفاقم الأزمة التّواصليّة وهي على التّوالي: الصّدق والتّفاهم و الجدّيّة. إلاّ أنّ الإلتزام بايتيقا التّواصل لايمكن تأمينه دائما لجهة انّ من طبع الانسان ان يعرف الفضيلة ويأتي الرّذيلة. فأيّ افق اذن لأزمة التّواصل ومخاطر استعمال الرّمز استعمالا لا انسانيا؟

 تبقى الأنظمة الرمزيّة حمّالة مفارقات لأنّ الإنسان الّذي انتجها كائن تناقضات، عليه انْ يجتهد لتخطّي تناقضاته دون ان يدّعي ان الإنسان الشموليّ قادم، ولا انّ الإنسان المفرط في انسانيته ممكن. ولكن يبقى مع ذلك من حق البشر مواصلة بناء عالم انسانيّ، وليكن عالما ايتوبيا لا بمعنى الوهم وانّما بمعنى العوالم الرمزيّة الّتي نلتجئ اليها نحن البشر في افق ضرب من ايتيقا الأمل. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية