الانّية والغيرية

الإنية والغيرية:


تأمَّلْ أيّها العاقل في أنّك اليوم في نفسكَ هو الذي كان موجودًا في جميع عمركَ، حتّى أنكَ تتذكَّر كثيرًا ممّا جرى من أحوالكَ، فأنتَ إذَنْ ثابت مستمرّ لا شكّ في ذلك. وبَدَنُكَ وأجزاؤه ليس ثابتًا مستمرًّا [...] فذاتُكَ مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة."
                                        ابن سينا ـ رسالة في معرفة قوى النفس الناطقة ـ ص: 9.

الإنية كِوحدة:

يقول ”أرنست بلوخ“ [Ernest Bloch]: «لا شيء يمنحنا انطباعا بوجود إجابة ممكنة إذا لم يتوافر في البدء تساؤل ما، لهذا السبب وحده نجد أن أشياء ساطعة بقيت في معزل عن رؤيتنا و كأنها لم تكن أبدا…»(مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماز -د.علاء طاهر-ص9 –منشورات مركز الإنماء القومي-بيروت-ط الأولى)، ما من شك في أن أكثر الأشياء قربا منا وأوكدها مباشرية هي ذواتنا التي بها نفكر، وبها ندرك ونعي ونتساءل ونحب ولا نحب ونفعل وننفعل ونتفاعل ومنها نخجل أحيانا… غير أن حضور هذه الذات و تواجدها في العالم والبرهنة على وجودها هو ما يسمى بالإنية التي هي مصطلح مشتق من ”الأنا“ ولكنها ليست ”الأنا“ بالمدلول الحرفي وإنما ما به تكون هذه ”الأنا“ ”أنا“ أي عينية ”الأنا“ وما دل على وجودها فعلا وعن حقيقتها الفعلية بهذا يمكن أن نفهم تعريف ”الجرجاني“ للإنية في كتاب ”التعريفات“ باعتبارها «تحققا للوجود العيني من حيث رتبته الذاتية» بذلك يتخذ هذا المفهوم معنى أنطولوجيــا  أي وجوديا لأن الحديث عن الوجود يعتبر وجودية فقياسا على هذا يكون المبحث في مجال الذات والأنا: إنية [ipséité] (من الجذر اللاتيني ”ipso” أي: الهُو َهُوَ وهذا التأصيل الفيلولوجي أي الإشتقاقي يكاد يوحي لنا بتعريف ”الجرجاني“ لمفهوَميْ ”الماهية“ حيث يقول «ماهية الشيء ما به الشيء هو هو وهي من حيث هي»، و"الهُوِيَّة" التي يعرفها بأنها: «الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق».
تفيد لفظة الإنّية Ipséité Eccéité Ecceitas (L) Haeccéité + Ecceity + This-ness (E) Da-sein (A) تحقّق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية. وإنّية الشيء وهوّيته وهذيّته وعينيته واحدة، بمعنى وجوده المفرد العيني. وهي بهذا المعني المفهوم الذي يمكّننا من التفكير في الإنسان كنوع وكفرد في آن؛ وظهرت كلمة الإنّية على أنحاء متعدّدة، فكتبها بعضهم الإنّية وتفيد التأكيد والتشديد على الوجود، وأنّية كأن تقول أنّه موجود، والأنّية من الأنا؛ وأيضا الآنية من الآن، والأينية من الأين نسبة إلى الوجود في المكان؛ والأيية نسبة إلى المقول في جواب أي شيء هو، ونفهم من هذه التحديدات أنّ الإنّية تفيد معنى تحقّق الوجود؛ والإنّية لا تحيل على حقيقة سائر الأشياء، بل حقيقة الذات فقط، أو حقيقة الأنا كوجود في العالم، ووجود في الزمان.
 إن انتساب الإنّية لعالم الوجود يطرح مشكل علاقة الإنّية بالماهية خاصّة في المقاربات التي لا تفكّر في الوجود إلاّ انطلاقا من ماهية محدّدة ماقبليا، فإذا كان السؤال عن الإنّية مرتبط بحقيقة الوجود الإنساني، فبأيّ معنى تحيل ماهية الإنسان على حقيقة وجوده؟ ألا يتحوّل التفكير في حقيقة الإنسان انطلاقا من الماهية تضييقا على الإنّية؟ 

الخطاب الفلسفي الـقديم

لقد دعا سقراط منذ القرن 5ق م إلى ضرورة معرفة الذات وذلك ضمن عبارة «أعرف نفسك بنفسك» المنقوشة على جدران معبد دلف بأثينا، فكيف يمكننا أن نعرف أنفسنا ونبرهن على وجود ذواتنا؟ هل يكون ذلك بالعودة إلى منظومة الجسد أم منظومة النفس أم إلى كليهما؟ هل أن إثبات إنيتنا هو إثبات لذواتنا أم تأكيد لها أمام الآخرين؟ وهل نكون في حاجة فعلية إلى إثبات هذه الإنية؟
إن مطلب الإنية هو مطلب تأسيسي في الفلسفة نظرا لأنه رافق تاريخها منذ القديم، الذي ارتبط بمفهوم النفس باعتبارها جوهرا أسمى من الجسد المشوه والمغضوب عنه أنطولوجيا نظرا لأنه مجال الزلل والشهوة والنقص والدونية الشيء الذي أدى بالأفلاطونية مثلا، إلى محاولة القطع معه واعتباره هاجس العامي الذي يعتقد أن تحقيق متعة الجسد وتلبية رغباته هو امتلاك للسعادة وكشف عن نقاب الحقيقة، غير أن هذا الفهم للحقيقة حسب أفلاطون هو مضاد لها لأنه يشرع للوهم والانخداع والانغماس في زيف الحواس والمحسوسات وسجن للنفس في قبر الجسد الذي يحاول قدر مستطاعه أن يعطل توق الروح إلى عالمها العقلي الذي هو عالم المثل والآلهة والحقائق الحقيقية هذا العالم الذي يسعى الفيلسوف إلى بلوغه عن طريق التدرب على الموت أخلاقيا ومعرفيا عن طريق تهميش الجسد وإقصاء حضوره الفاعل في الوصول إلى الحقيقة والبحث عن الهوية الأصلية للنفس، لذلك يقول في محاورة ”الفيدون“ [§66] على لسان سقراط «إن الفيلسوف يلتمس قدر الإمكان كل سبيل إلى إبعاد النفس عن معاشرة الجسد وإنه يختلف في ذلك عن سائر الناس».

الخطاب الفلسفي الوسيط

أما في الخطاب الفلسفي الوسيط فيمكن أن نقر بأن مسألة النفس قد حافظت على مكانتها المرموقة التي سعت الفلسفة الإغريقية أن تدافع عليها مقابل وضع الجسد موضع المتحول والمتغير الذي لا يعتمد عليه قطعيا في إثبات ذواتنا لأنه ينتمي إلى مجال الحسي ومجال التحلل والفناء ذلك أن الفلسفات الإسلامية أو المسيحية قد حاولت ربط المعطيات الدينية المقرة بخلود النفس وانحدارها من أصل إلهي بما هو فلسفي لتصبح مقولة "الأنـا" أو "النفس" مقولة جوهرية سامية وثابتة وخالدة حتى بعد زوال الجسد وموته. لذلك نجد ابن سينا مثلا يعطينا مثال "الرجل الطائر" ليثبت به أن النفس حتى لو كانت معلقة متعالية عن الجسدي والمادي فإنها تعي بذاتها وتثبت إنيتها وتشعر بوجودها إذ يقول في الفصل الأول من المقالة الأولى من كتاب "الشفاء" (طبع: المؤسسة الجـامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1981 ص18-19) «حري [بنا] أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشيء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا (...) فنقول يجب أن يتوهم الواحد يهوي في هواء أو خلاء هويا (...) وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس (...) كان يثبت وجود ذاته ولا يشك في إثباته لذاته موجودا» إن مثال "الإنسان المعلق" الذي حتى وإن انفصل عن أجزاء جسده يكون مدركا لذاته كنفس. هذا الموقف على رغم طرافته لن يفلت من النقد نظرا لأن فلسفات تجاهل الجسد ستشهد نكسة جد هامة في الفلسفات المعاصرة التي ستسعى فيما بعد إلى قلب معـادلة الجسد وتثمين ما تم بخسه طيلة تاريخ الفلسفة الطويل ليتحول الوضع من أفلاطونية تطارد الجسد إلى جسد يطـارد الأفلاطونية التي حـــاولت تسجيل حضورها بطريقة صريحة أو غير مبـاشرة لفترة طويلة من تاريخ الفلسفة الطويل هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد عرفت فلسفة الحداثة قبل ذلك تجربة يشهد لها في محاولة إثبات الذات وجعلها شرطا من شروط الوجود بطريقة أكثر عقلانية من تصور ابن سينا للمسألة.
  
"وعندما نرفض على هذا النحو كلّ ما يمكن أن يناله أقلّ شكّ، بل نعتبره كاذبا، فإنّه من السهل علينا، أن نفترض أنّه ليس هناك إله ولا سماء ولا أرض وأنّنا بدون جسم ولكنّنا لا نستطيع أن نفترض أنّنا غير موجودين عندما نشكّ في صحّة هذه الأشياء كلّها، إذ من غير المستطاع لنا أن نفترض أنّ ما يفكّر غير موجود بينما هو يفكّر، بحيث أنّنا مهما نبالغ في افتراضاتنا لا نستطيع تجنّب الحكم بصدق النتيجة الآتية: أفكّر إذن أنا موجود. وبالتالي فهي أولى وأيقن القضايا التي تمثل لإنسان يقود فكره بنظام."  
                                                             ديكارت ـ مبادئ الفلسفة.

لم يكن اكتشاف الإنية ثم إثباتها بالأمر اليسير أو الهين بالنسبة ِلـ ”أب العقلانية“ ديكارت، نظرا لأن هذا الأخير لا يقبل بالبديهي والعادي والمألوف إلا بعد التثبت من صحته وتبرئته عقلانيا من كل إلتباس; لأننا إذا اعتقدنا في كل شيء على انه يقين يمكن على ضوء ذلك أن نؤسس معارف أخرى مرتبطة بالمعرفة السابقة التي لم نتثبت من يقينيتها بعد؛ فنقع بذلك في وهم أضخم من الأوهام السابقة لأن ما يبنى على باطٍل باطلٌ بالضرورة; لقد كتب ديكارت في التأمل الأول من ”التأملات الميتافيزيقية“ [ص1968, p.u.f 25] قائلا: «تفطنت، منذ مدة، أنني تلقيت منذ كنت صغيرا، جملة من الآراء الخاطئة، كنت أظن أنها صادقة وإلى أنَّ ما أقمته بعد ذلك على مبادئ هذه حالها من الاضطراب، لا يمكن إلا أن يكون مشكوكا فيه جدا ومفتقرا إلى اليقين. فكان لابد لي أن اعزم، مرة في حياتي، على التحرر جديا من كل الآراء التي اعتبرتها صادقة إلى حد الآن وأن أبدأ كل شيء من جديد من الأسس».
*    كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز ولكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد.
*     في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه.
*     هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة وخاطئة وجب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، وهذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. وهذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول إن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الإنجليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية.
*     الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد ومتعالي عليه.
*     عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، والامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. وبهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين
*     1-لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده.
*     2- وكذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ.
وعندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. ويغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، وماهية الفكر في التأمل الثاني، ووجود الله في التأمّل الثالث والرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. ويبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد والتي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد.
*     ولا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد وذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد والنفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. ولكن لماذا لم تعتبر "التأمّلات" هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟
*    إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في "التأمل الأول" هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا" ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، "ثالثا" إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) وبطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم والنفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، وينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين ولذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات ولكنه يكون مكملا له. وهذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات.
*     عملية توحيد الجسد والنفس في كتاب "الانفعالات" متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند "سبينوزا" و"ليبنيز" وإنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض وخالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات؟
*    عند أرسطو ولتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة ومن مادّة والصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة وذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل ونقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. وبهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإله وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. وهذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. وعلاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل ومعنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. ولهذا فتكوين جوهر معين يفهم "بالفعل" (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل
*     وهذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار وذلك لعدّة عوامل:
1- لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل.
*    2- لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود وكذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. ومن هذه الزاوية لم تعد "الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. وعندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام ويعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط.
*     3- لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد وهذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. وبالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.
*    لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في "أي شكل" التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للإنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد.
*    فكيف تتحدّد النفس بما هي جوهر الإنية في التأملات؟
*    تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة: على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر وعلى نطاق الذهن. وهذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت ولأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر ويبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد وهو "الكوجيتو". يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول وفي التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن ألا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، ولكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. وهذا يمثل نوعا من المفارقة لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. وهذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو وكأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله وهي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد.
*     نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول والتأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. ولكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. ووجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. وماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر وكذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي Modale، ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية وخاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما ولهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع.
*     وتتمثل إشكالية هذا النّص (الذي يصف قطعة الشمع في التأملات) في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك والتجريبيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم والرائحة والحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. والنتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاثة مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد:
*     1- الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية.
*    2- وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية
 3-  إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر
*    4- الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور.
*     أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل ونعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. ولذلك فكلمة "أيسر" تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب.
*     ذلك "أن الفكر أسبق معرفة من الجسم" هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار ونحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة.
*     بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي "substra" أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا "المسبب لذاته". فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة).
*     ومن هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد والنفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنثروبولوجية، ونعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة وإنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، وهو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. ولكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا "الموقف الأنثروبولوجي" ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد وبساطة هذه النّفس وتوحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب "الانفعالات" حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق وأيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب "الانفعالات" لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل وجملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب "التأمّلات" وإنما لكتاب "الانفعالات".
*    إنّ النظرة الديكارتية للإنسان والتي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنثروبولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. وهذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، وعن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة وعقل من جهة أخرى، ولكن لا العقل ولا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف؟
*    إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة وتبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة وانفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، وهذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. والنظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل ولو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات ولا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنثروبولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت وحدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده ونفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس والجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، وإنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا والجسد مجموعة حركات وانفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، وتعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد والفكر.


يمكن أن نفهم التكثر في هذا السياق بمعنى الوجوه الأخرى التي يمكن من خلالها الولوج إلى مشكل الإنية التي عالجناها إلى حد الآن من منظور الوعي و التفكير والنفس والذاتية والواقع أن الإنية يمكن تناولها فلسفيا من أنحاء شتى مستفيدين من عبارة المعلم الأول أرسطو «الوجود يقال على أنحاء شتى»، ذلك لأن الحديث عن الإنساني لا يمكن ملامسته من زاوية وحيدة بل من منطلقات أخرى يمكن أن تخرجنا من منزلقات الأحادية إلى دروب الكثرة والاختلاف والآخرية، فنشرِّع بذلك للتطرق لمسائل متورطة في مسألة الإنساني مثل: الجسد واللاّوعي والزمنية …
لقد جسَّد الجَسَدُ مشكـــلا فلسفيا منذ بدايات الفلسفة، حيث رأينا موقف الأفلاطونية التحقيري له ضمن تصور مثالي يعطي قيمة للروحي و للسماوي (الإلهي) على حساب المادي والحسي وهو موقف يهمش الجسد ويحاول استبعاده لتتمكن النفس من بلوغ المعرفة والحقيقة حيث نقرأ في محاورة ”المأدبة“ لأفلاطون ما يلي: «إن عيون النفس لا تبدأ في النظر الثاقب إلا عندما تبدأ عيون الجسد في غض بصرها»، كما علمتنا الديكارتية أن الجسد هو الخادع والمنخدع نظرا لاعتماده على الحواس أولا ونظـرا لطابعه الامتدادي المادي المتحول تحول قطعة الشمع بفعل الحرارة; غير أن حضور الجسد في التفكير الفلسفي قد شهد تحولا يُشهد له حيث سيحاول الجسد افتكاك مركزيته ورد الاعتبار لتاريخ السلب والسلبية الذي حاصره وذلك ببروز فلسفات جديدة جسدت النيتشوية أبرز محطة فيها نظرا لاعتبارها فلسفة القلب والإنقلاب على الموروث الفلسفي القديم الذي اتهمه نيتشه بالصنمية والفرعونية لأنه يؤمن بوجود حقائق خالدة لا تملك الجرأة والقوة الكافية لتظهر للعيان فلا تعدو بذلك إلا أن تكون أوهاما محنطة، نسينا أنها كذلك; لذلك يرفض نيتشه أن تكون الفلسفة الفعلية « تدرب على الموت» مثلما رام أفلاطون أن تكون عليه معلنا أن التدرب على الحياة هو تدرب على مبدأ إرادة القوة وإرادة الفعل اللذان لا يكونان إلا بتقديس الجسد لأنه «العقل الكبير» والفاعل الحقيقي في هذا العالم حيث يقول في كتاب ”هكذا تحدث زرادشت“: «يحمل جسدك أكثر عقلا من أفضل حكمة يفرزها عقلك»; لقد حاول نيتشه أن يبين أن للجسد أولوية و أفضلية على منظومة الوعي الذي سيصبح معه مجرد وسيلة و أداة طيعة في خدمة الجسد لذلك يعلق إيريك بلندال في كتابه: [”نيتشه: الجسد والثقافة“­­ ص 128­ﭙيف­1983] قائلا: «إن نيتشه قد عانى جهدا سيزيفيا ليثبت أن كل شيء يبدأ من الجسد» ولأن الجسد قد أعلن مع النيتشوية سيدا فقد سعى هذا الأخير إلى تأسيس نظرية أخلاقية قائمة على إعطاء أولوية أولا: للبعدين الإيروسي والديونيزوسي (نسبة إلى ”إيروس“ إله الحب و”ديونيزوس“ إله الخمر و النشوة عند الإغريق)، وثانيا: لمبدأ إرادة القوة الذي يعتبر مفهوما تأسيسيا في الفكر النيتشوي الذي يرفض التوجهات الميتافيزيقية نظرا لأنها تشرع للخضوع والإستعباد و بالتالي تكون منظرة لما يسميه نيتشه بـ”أخلاق العبيد“ التي تعطي أولوية للسماء على الأرض و تقزم الإنسان وتجعله في تبعية لأوهام ابتدعها مثل العقل والآلهة و الحقيقة و الفضيلة و الحال أن الأخلاق الحقيقية التي يجب أن نتعلمها و نعلمها هي ”أخــــــلا ق السادة“ التي يمكن أن تحول الإنسان من كائن عادى خاضع للآخرين إلى سوبرمان [super man] مؤكدا لحضوره على الأرض وسيدا لمصيره وعلى الآخرين، بذلك تضحي الإنية الفعلية حسب نيتشه هي جسدية في مجملها أما الغيرية فتوضع موضع خطر وفق هذا الفكر الباحث عن السيادة التي لن تتحقق إلا عبر إستعباد بشكل أو بآخر للغير إن لم نقل إستبعادا له·
ولكن التمثل النيتشوي للجسد ولفلسفة الحياة يجد جذوره في النقد السبينوزي للديكارتية عبر الحديث عن وحدة النفس والجسد الذي لم يعد غيرا وأنما أنا: فما هي أسس النقد السبينوزي للديكارتية وتمثلها للإنية الإنسانية؟
  
*    لفهم علاقة النفس بالجسد أو بالأحرى علاقة الجسد بالنفس كما يفهمها سبينوزا ينبغي أن نتعرّض إلى أهمّ الحقائق التي يركز عليها في الفصل الأول من كتاب "الأخلاق". يبتدأ كتاب "الأخلاق" ببيان أن الله سبب لذاته وأنه لا متناه مطلق وأنه "مكوّن" من عدد لا متناه من الصفات. فالله هو الجوهر الوحيد وهو سبب لنفسه لا متناه مطلقا ويحتوي على عدد لا متناه من الصّفات. والإنسان لا يعرف من هذه الصفات إلا صفتين فقط: الامتداد والفكر، وماهيّة الله معادلة تماما لقوته Essence = Puissance. وما يعنيه ذلك هو أن الله لا يخلق. أما الصفتان اللامتناهيتان – الامتداد / الفكر – فمكوّنتان من عدد لا متناه من الضروب - modes- وكل ما هو موجود ليس إلا ضربا معينا، إما ضرب من الصفة اللامتناهية للامتداد، وإمّا ضرب للفكر الذي هو صفة لا متناهية ايضا، وإمّا ضرب لصفة أخرى لا نعرفها أو كذلك مكوّن من ضربين. الإنسان هو بالنهاية علاقته ضربين (فكر / امتداد) وهذا ما يعني أنّ الإنسان لم يعد يعتبر كجوهر متميّز خاصّة بل أصبح مجرّد ضرب أو علاقة بين ضربين مثل غيره من الكائنات. ولذلك يبدأ سبينوزا الفصل الثاني بقوله: الإنسان يفكر (أي أن الإنسان ليس فكرا فحسب، وهذا الفكر ليس ماهية الإنسان (ديكارت: ماهية الإنسان الفكر)).
*     والفكر عند سبينوزا ليس له نفس المعنى الديكارتي: فالفكر عنده مجموعة أفكار وبالتالي لا كما هو الشأن عند ديكارت أن الفكر هو ذات مفكرة. فهذه المقولة (الذات المفكرة) قد تعني أنه إذا وجد فكر ما، فهذا الفكر موجود في الإنسان ولا يعني أن ماهية الإنسان هي فكر، بل يعني أن الإنسان قد يفكر أو بالأحرى قد لا يفكر. وبصفة أدق أن ما لا يفكر إنسان بما أن الفكر لا يحدّد ماهية الإنسان. وعندما نسلم بذلك يصبح شرعيا أن نقول إن الطفل والمجنون (كليهما إنسان). وديكارت على عكس سبينوزا تماما لا يقول بأن المجنون إنسان بل هو كائن بشري مشوه أي مسخة. في حين بالنسبة لسبينوزا يمثل الإنسان الذي لا يفكر إنسانا، وبهذا يتخلّى سبينوزا عن الثنائية الديكارتية التي ظهرت خلال القرن 17 والتي تفصل بين الإنسان المخبول والعاقل في حين أن ملاحظة سبينوزا لا تفرز أي تمييز وأي إقصاء لنوع ما من البشر.
*    بما أننا لا نعرف إلا صفتين لا متناهيتين – الفكر والامتداد – وبما أن الإنسان علاقة بين ضربين موازيين لهاتين الصّفتين أي ضرب الرّوح وضرب الجسد، ولكن أيضا بما أن كل صفة ليست لها علاقة سببية بالصفات الأخرى، فلا الجسد يؤثر في النفس ولا النفس تؤثّر في الجسد، وهذا بعكس ما يقوله ديكارت (النفس تفعل في الجسم وهذا ينفعل بها)، فبالنسبة لسبينوزا كل ما هنالك، هو تواز فقط بين الجسد والنفس. ومن هنا نلاحظ كيف يبتدأ سبينوزا في نقد مسألة علاقة النفس بالجسد عند ديكارت بدون أن يقوم بأيّ نقد فعلي ومباشر لأن فلسفة سبينوزا هي مجرد وضع لنفس الأفكار بصفة إيجابية لا سلبيّة، لأنه سيبين أنّ هذه المسألة ليست مشكلا فلسفيّا حقيقيّا، وثانيا، وبصفة خاصة، سيبين أنّ النفس والجسم هما في آخر التحليل شيء واحد، فليس هنالك جسم من جهة ونفس من جهة أخرى، ولكن بالرّغم من هذا فهنالك علاقة بين النفس والجسد عند سبينوزا.
*    لماذا ليس هنالك جسد من ناحية ونفس من ناحية أخرى وبالرّغم من هذا توجد علاقة رابطة بين الجسد والنفس؟
*    إن طرح الإشكال بالنسبة لسبينوزا يختلف جوهريا عما هو عند ديكارت، ذلك لأن كل ضرب من ضروب صفة ما مواز لضرب ما من ضروب كل الصفات الأخرى اللامتناهية. وبما أن النفس هي ضرب مواز لمجموعة الضّروب الأخرى، فهي كضرب لها فكرة موازية فتكون النفس فكرة الفكرة "L'idée de l'idée" وبما أن فكرة الفكرة لها فكرة موازية لها تصبح فكرة النفس فكرة فكرة الفكرة. وهكذا إلى ما لا نهاية فتصبح النفس أفكارا عددها لا متناهية في حدّ ذاتها. وبما أنّ كل ضرب من الضروب الأخرى المواز لفكرة ما مواز لهذه الفكرة، فإن الفكرة كفكرة تعبّر عمّا هو موجود في ضرب الامتداد أي تعبّر عن الجسد وهذا التعبير يعني أساسا فعل الجوهر الوحيد الواحد (Unité / Unicité) وهو نفس الفعل في جميع الصّفات، أي ما نجد له أثر في الجسم أو في النفس أو في الإله هو نفس الفعل أو الشيء لأن الله أو الجوهر يعبّر عن نفسه بنفس الصفة والطّريقة في كل الضروب. إذن العلاقة بين النفس والجسد تصبح عند سبينوزا علاقة شيء بنفسه، أي ما نعتبره نفس يمكن أن نعتبره جسد والعكس بالعكس فليس هناك فصل حقيقي بينهما ولا إشكالية بحث تميّز بينهما. لذلك فإن سبينوزا يعيب على ديكارت فصل هذين الضربين والدّخول في مشكلة البحث عن العلاقة بينهما في حين أن الأمر لا يقتضي افتعال أي مشكل.
*     والموازاة بين هذين الضّربين عند سبينوزا يمكن إعتبارها من ثلاثة نواحي:
*    - توازي انطولوجي بين الفكرة وكل ضرب من ضروب الصّفات الأخرى، أي إنّ لكل ضرب من كل الصّفات نفس القيمة الأنطولوجية. ومن هنا نرى أنه ليس ثمة داع للقول إنه هناك ضرب أسمى من ضرب آخر بما أن التوازي الأنطولوجي يحتّم أن يكون هنالك تطابقا بين كل الصّفات وعندما نطبق العلاقة على الجسد والنفس نفهم أنه ليست النفس أسمى من الجسد ولا هذا هو أيضا أرذل.
*    - توازي على مستوى الماهية، أي وجود تطابق بين كل ضرب من ضرب صفة مع كل ضرب من ضروب صفة أخرى، بحيث أن النفس هي الجسد المنظور له من جهة صفة الفكر والجسد هو النفس المنظور لها من جهة صفة الامتداد.
*    - توازي على مستوى القوة والفعل فليس هنالك تأثير ضرب من صفة ما على ضرب من صفة أخرى، ولهذا فإن ضرب النفس مساو ومعادل ومرتبط بضرب الجسد دون أن يكون هنالك تأثير النفس على الجسد أو تأثير الجسد على النفس، ففعل النفس هو عين فعل الجسد وهو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
*     - وإلى جانب ذلك (إلى جانب هذا التوازي العام) هنالك توازي خاص بين كل ضرب من ضروب صفة الفكر والضروب اللامتناهية في الصفات الأخرى.
*    وهكذا فإن الرّوح والجسم هما في الحقيقة نفس الشيء لكن ننظر إليها تارة من زاوية صفة الفكر وتارة أخرى من زاوية صفة الامتداد. وعن هذا ينتج أنّ نظام أفعال الجسم يتماشى أو يتناسب مع نظام أفعال الرّوح. وذلك يعني أن كل انفعال هو انفعال الرّوح والجسم في نفس الوقت عكس ديكارت الذي حينما يستعمل كلمة فاعلية "affective" فإنه يعني بذلك تأثير الرّوح على الجسم وبكلمة منفعلة يعني تأثير الجسم على الرّوح.
*     مما يبرز لنا الاختلافات الهامّة بين ديكارت وسبينوزا، اختلافات يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:
الجسد والنفس متوازيان لهما نفس القيمة ولكنهما يختلفان معرفيا.
*     • الفكر له أفضلية فهو صفة معبّرة عن الصّفات الأخرى : أفضلية عند الإنسان وليس عند الله.
*     • الأفضلية الثانية : في صفة الفكر نفسها لكلّ ضرب من هذه الضروب فكرة.
*     • الأفضلية الثالثة : في العمق كلّ فكرة تربطها فكرة أخرى.
*     • توازي عام أنطولوجي أي توازي بين الصفات اللامتناهية.
*     • توازي خارج الفكر : الفكر يعبّر عن كل الضروب الأخرى الخارجة عن الفكر.
*     • توازي بين الفكر والامتداد.
*     • توازي داخل الفكر فقط بين فكرة وفكرة.
*     وما نلاحظه انطلاقا من هذه المقتطفات من الفصل الثاني من كتاب الأخلاق الذي يبحث في أصل وطبيعة الرّوح أن سبينوزا يبدأ في دراسته للرّوح بعرض فيزيائي لمكوّنات الفرد كفرد وهذه المكوّنات تنطبق على الفرد الإنساني وكلّ أنواع الأفراد الأخرى، وما يميز الإنسان هو التعقيد وقدرة الفرد الإنساني على أن ينفعل أكثر من الأنواع الأخرى. وهذا يعني أنّه ليس هناك تمييز جوهري أو طبيعي بين الفرد الإنساني وغيره بل مستوى أرقى في التّركيب فقط عكس ما يعتقده ديكارت الذي وإن أقر أن الجسم الإنساني فيزيائيا يشبه كلّ الأجسام الأخرى فإنه أفرد له قولا خاصا.
*     انطلق سبينوزا إذن، في دراسته للرّوح من معالجة المسألة الفيزيائية أولا كمدخل لدراسة الرّوح حتى يؤكد أن الفيزياء يجب أن تسبق دراسة الرّوح "الجسم قبل الرّوح" عكس ديكارت الذي يعتقد أن المرور بتحليل الجسم يجعل معرفة النفس أكثر تعقيدا وغموضا ولهذا ينبغي معرفة الرّوح مباشرة لأنها أبسط معرفة / أيسر معرفة.
*     كما نرى منذ بداية الفصل الثاني من كتاب الأخلاق أن الامتداد أصبح مع سبينوزا صفة لله إلى جانب صفة الفكر وإلى جانب الصّفات اللامتناهية الأخرى، وهذا يعني أنه لأوّل مرّة في تاريخ الفلسفة ارتقى الامتداد وبالتّالي المادّة إلى مستوى طبيعة الله. فلم يعد بالإمكان التمييز الانطولوجي والماورائي والأخلاقي بين روح سامية وجسم أدنى بما أنّ الامتداد والفكر أصبحا على نفس المستوى. وبهذه الكيفية التي تجعل الامتداد والفكر متساويان في طبيعة الله، يمهد سبينوزا إلى نوعية العلاقة التي تكون بين الجسم والرّوح في الإنسان أي يمهّد إلى مبدأ تساوي الجسم والرّوح في الإنسان ذلك أنه على غرار الطبيعة الإلهية المكوّنة من عدد لا متناه من صفات لا متناهية من بينها الامتداد والفكر، فإن الإنسان مكوّن من ضربين لهاتين الصّفتين الأخيرتين: ضرب الجسم وضرب الرّوح كضربين متساويين: والتساوي هنا يعني نفس القيمة الأنطولوجية، ولهما كذلك نفس الفعل فهما متعادلان أي أن ما يحدث في واحد منهما يحدث في الآخر فكلمة التساوي ينبغي أن تأخذ في معناها الواسع.
*    وهكذا يجعل سبينوزا الرّوح والجسم ضربين متساويين ويقضي بذلك على مشكلة علاقة الرّوح بالجسم، أي لم تعد هذه المسألة في فلسفته مشكلة مثلما كان الأمر عند ديكارت فهذه المسألة لم تعد مشكل بل ربما لم يعد هنالك وجود حتّى لعلاقة ممكنة بما أن الضّربين متساويين بل هما في الحقيقة نفس الشيء بما أنهما يعبّران عن نفس الشيء. وهذا يعني أنه لم يعد هنالك تقابل بين الجسم والرّوح (المشكل عند ديكارت هو في وجود علاقة بين شيئين متنافرين)، فبالنسبة لسبينوزا قوة الجسم هي عينها قوّة الرّوح وضعف الجسم هو بذاته ضعف الرّوح وبالنسبة لديكارت عندما تضعف الرّوح يقوي الجسم وعندما تقوي الرّوح يضعف الجسم. وبما أنّه لم يعد هناك مشكل ولا تقابل بين الجسم والرّوح بل فقط تساوي بين شيئين فإن المبدأ الأخلاقي الكلاسيكي الذي ينشأ عن التقابل بين الرّوح والجسم ومحاولة تغليب إرادة الرّوح على انفعالات الجسم، هذا المبدأ الأخلاقي لم يعد له أي مفعول عند سبينوز وهو ما يظهر من خلال نظرية الكوناتوس "Conatus" كماهية للإنسان من حيث هو ضرب، أي رّغبة في المحافظة على البقاء
*     إن تعريف الإنسان كرغبة وبيان أنّ هذه الرغبة هي في نفس الوقت رغبة الجسم والرّوح معا يتنافى تماما مع تعريف الإنسان عند ديكارت كروح فقط على مستوى الماهية. و بما أنّ الرغبة هي المحافظة على البقاء أولا وبالذات فإن الانفعالات أو الأحاسيس إما أن تكون أحاسيس إيجابية نكون فيها فاعلين أو نكون فيهما منفعلينPassifs / actifs وهذا التميز السبينوزي بين الانفعالات من الصنف الأول وبين الانفعالات من الصنف الثاني يتنافى مع تمييز ديكارت الذي يقرّ أننا عندما نكون فاعلين فعلنا ينتج عن الإرادة التي تنتج عن الرّوح وعن تأثير الرّوح في الجسم وعندما نكون منفعلين فإن الانفعالات تكون ناتجة عن تأثير الجسم في الروح بينما يرى سبينوزا أنه عندما نكون فاعلين نكون فاعلين جسما وروحا معا وعندما نكون منفعلين نكون منفعلين جسما وروحا. وهذا يبين من جديد أن سبينوزا يعتقد أن علاقة الروح بالجسم ليست مبنية على تأثير الواحد في الآخر هنالك علاقة توازي فقط.
*     ويمكن أن ندقق لتوضيح موقف سبينوزا من علاقة الرّوح والجسم، وجهات النظر التي يختلف فيها صاحب كتاب الأخلاق عن ديكارت:
*     - نفي الفعل المتبادل Réfutation de l'action réciproque.
*     - علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل.
*     - التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه.
*    ويظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، وهذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم وبالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. وبصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة (actives) وبين الانفعالات المنفعلة (passives) ليس له نفس المعنى عند سبينوزا وديكارت، فعند ديكارت "Passion" تختلف جوهريا عن "Action" ذلك لأن "Action." هي تابعة للروح و"Passion." تابعة للجسم، ولكن عند سبينوزا يمثل الانفعال ماهية الضرب وبالتالي فإن Action. / Passion. تعني نفس الشيء. لذلك ينبغي أن نؤكد على أن سبينوزا يقرّ أن الانفعالات والعقل معا يرجعان إلى طبيعة الإنسان وذلك يعني:
*     1- أن الانفعالات طبيعية، أي تفسّر بالرجوع إلى الطبيعة الإنسانية عكس النظرية الأخلاقية أولا وعكس موقف ديكارت ثانيا، إذ أننا لسنا مخيرين لأن نكون منفعلين أو العكس.
*     2- العقل طبيعي في ظروف إنتاجه كعقل وفي متطلباته – exigences – وذلك يفهم بقدرة الجسم على التفكير في متطلباته أي أن العقل لا يقبل إلاّ الأمور الطبيعية فالعقل إذن ليس ضد الطبيعي إنما هو في النهاية موافق لها ويجاريها ولا ينبغي أن يكون مالكا أو سيدا للطبيعة مثلما هو الشأن عند ديكارت أي أن يكون العقل مشتركا بين الطبيعة والإنسان، أي أن العقل هو الأفكار المشتركة والصحيحة التي تدرك أن بين الأشياء علاقات.
تعتبر الوجودية والظاهراتية من أبرز التوجهات الفلسفية المعاصرة التي سعت إلى إيجاد تصور للجسد بربطه بالتجربة المعيشة للإنسان في العالم أي باعتباره ظاهرة قابلة للدرس وحاملة للمعنى بمعزل عن التوجهات الميتافيزيقية التي تخبط فيها تاريخ الفلسفة ذلك لأن حضور الإنسان في العالم هو حضور متجسد فالجسد هو وعاء للوعي وهو أيضا رابط بين الوعي و العالم فلا يمكننا دراسة العالم بدون توسط للجسد ولا يمكننا دراسة الجسد بفصله عن مبدأ الوعي وبعزله عن العالم الذي ينتمي إليه حسيا ووجوديا ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم كلمة ”الدازاين“[dasein] التي استعملهـا ” هيدغير“ بمعنى [الموجود ­هناl’être-là ] التي تفيد الوجود في العالم عن طريق شعورنا داخل ذواتنا بالانتماء إليه وشعورنا بالحضور فيه عن طريق أجسادنا فالإنية هنا هي إنية للذات المتجسدة المنفتحة على العالم؛ وعلى الآخر باعتباره ذاتا أخرى وجسد آخر منغمس هو بدوره ومنخرط في خارطة العالم ذلك لأن الآخر (الغير) لا يشاطر فقط العالم مع الذات المتجسدة بل يجسد في حد ذاته شرطا أساسيا في إعادة هيكلة العالم وفي تغييره ليكون كما هو عليه داخل ذاتي المدركة له لذلك يعتبر أب الظاهراتية ”إيدموند هوسرل“إننا عندما ننظر إلى طاولة أو جدار أو كرسي نعرف انه ثمة أشخاصا آخرين قد قاموا بتشييد الجدار أو بصناعة كل ما نراه بذلك يضحي الآخر حاضرا دائما في وعينا على شاكلة مجموعة من الدلالات أي انه معنى من معاني العالم وكذلك شرطا من شروط تكون الأنا لأن الأنا تكون دائما مرتبطة بأنا الآخر عبر حضورها في العالم معه وذلك ما عناه ”هوسرل“ بمفهوم”البيذاتية“ [l’intersubjectivité] أو التذاوت هذا المفهوم الذي يحمل شحنة نفسية يمكن أن تفيد التعاطف وكذلك شحنة رمزية تعني التعرف على الآخر عبر مدلولاته الذاتية في العالم لأن الموضوعات في الظاهراتية لا يمكن أن ترتبط بذات واحدة بل هي مرجع لبقية الذوات الأخرى لذلك يقول هوسرل:«إن الآخر ينكشف لي على هذه الطاولة، على هذا الحائط باعتبار أن هذا الموضوع هو موضوع دوما للآخر وهو كذلك مرجع لكل الذوات الأخرى»[ايدموند هوسرل:”التأملات الديكارتية“­­التأمل الخامس]؛ غير أن مفهوم البيذاتية الذي جاء به إيدموند هوسرل وإن نجح في كسر عزلة الكوجيتو الكلاسيكي لديكارت جاعلا من تجربة الوعي الحقيقي تكون ”وعيا بشيء ما“ أي انفتاحا للذات علي تجربة العالم الذي هو قبل كل شيء مليء بالذوات التي بدورها تسعى إلى الإنفتاح لتلتقي بالذوات الأخرى إما بطريقة مباشرة أو عن طريق الموضوعات فإنه قد أغفل بصورة أو بأخرى الجسد الذي سيحاول موريس ميرلوپونتي تحيين الهيكلة الظاهراتية له وذلك بتجاوزه لمفهوم البيذاتية الذي دافع عنه أستاذه هوسرل وإستبداله بمفهوم أكثر حميمية وأكثر واقعية هو مفهوم البيجسدية[l’inter corporéité]وذلك أولا: نظرا للإحراجات التي يمكن أن تحاصر مفهوم البيذاتية المعرضة دائما لخطر اللا-تواصل والموضعة من طرف الآخر عن طريق النظرة كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة جون پول سارتر أو عن طريق عدم الإعتراف بذاتية الآخر كما هو الشأن بالنسبة للتصور الهيڤلي أي عندما « ينسحب كل منا داخل طبيعته المفكرة ويضحي كل منا نظرة لا إنسانية بالنسبة إلى الغير؛ وإذا أحـس كل منا بأفعاله لا من حيث أن الغير يستعيدها ويفهمها؛ بل من حيث هو يلاحظها كما لو كانت أفعال حشرة؛ وهذا ما يحصل مثلا عندما يسلط علي نظر شخص مجهول»[ موريس ميرلوپونتي -ظاهراتية الإدراك-ط –ڤاليمار – ص414]و ثانيا: لأن تصور موريس ميرلوپونتي للجسد قد سعى إلى تجاوز كلاسيكيات التفكير الفلسفي الدارسة لمنظومتي الوعي والجسد على شاكلة انفصالية تكون بمقتضاها الذات مقيمة في الجسد ولديها قيمة أفضلية عليه لتتحول المعادلة لديه من أنا لديها جسد إلى أنا متجسدة ومتداخلة تداخلا ليس بقابل للفصل أو التفاضل مع الجسد حيث يقول موريس ميرلوپونتي في كتاب:[المرئي واللامرئي –ط-ڤاليمار-ص239]:”إذا كنا ندرك بالجسد, فان الجسد…بمثابة الذات التي تدرك“ نظرا لان المفهوم القديم للنفس أو للوعي لا يمكن أن يدرك في معزل عن الجسد والجسد بمفرده الخالي من الوعي لا يدرك هو الآخر لأنه مجرد جثة لذلك يميز هذا الأخير بين الجسد الموضوع الذي هو مجال الدراسة العلمية في المختبرات التشريحية والجسد الخاص المتفاعل مع مفهوم الوعي الذي يجعل منه ذاتا متجسدة وجسد مذوت الذي به: ”تتعارض تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأملية التي تخلص الموضوع من الذات والذات من الموضوع والتي لا تمنحنا إلا فكر الجسد أو الجسد في الفكرة لا تجربة الجسد أو الجسد على حقيقته“ [موريس ميرلوپونتي -ظاهراتية الإدراك –ط-ڤاليمار-ص231] إن الحقيقة الفعلية للجسد وفق هذا التصور هي الحقيقة المؤكدة للجسد الخاص كإنية متجسدة فاعلة ومنفعلة ”في“ وبمشهد العالم الذي يكون طابعا في أجسادنا ومطبوعا بها وذلك هو المعنى الحقيقي للبينجسدية التي هي علاقة وجودية بين أجساد العالم التي تتقاطع وتتداخل وفق جدلية الرائي والمرئي- اللامس والملموس- المصافح والمصافح .
 يفيد الجسد في آن الموضوع الذي يمكن إدراكه وما لا يمكن أن ندرك بدونه. من جهة إمكانية إدراكه يكون الجسد شيئا من أشياء العالم، أو موضوعا هو الجسم أو الجسد الموضوعي، أمّا من جهة تمنّعه عن الاستكشاف يكون الجسد هو الذات أو هو الإدراك ذاته، وهذا هو الجسد الظاهراتي، فالجسد دائما معي وليس أمامي على حدّ تعبير مرلوبونتي.

الجسد الظاهراتي هو الجسد الواقعي الذي من خلاله أدرك، والذي بفضله أكون في العالم، أو يفعل بطريقة يكون بالنسبة لي هناك عالم. أمّا الجسد الموضوع فهو مجرّد مفهوم بالنسبة لي، أو هو جسدي كما يمكن رؤيته في جسد آخر.
وإذا كان جسدي يتمنّع عن الاستكشاف والمعرفة فهذا لأنّه حامل جملة العادات، ومكان إقامة أفعالي اليومية، وهو الذي يضفي المعنى لعالمي اليومي. والذات المتجسّدة لا تنفصل عن العالم بل تنخرط فيه بحسب موقع لها، وعبر هذا الموقع تتواصل وتعي، وعبر هذا الموقع يكون في كلّ مرّة هناك "فهم ما" للعالم؛ الذات تعي العالم بحسب منظورية الجسد، لأنّ "الإدراك ينتج عن فعل الشيء في الجسد وفعل الجسد في النفس" فعلى النحو الذي يكون عليه جسدنا، وبحسب موقعه، في العالم ومع العالم، يكون وعينا. بل الوعي صيرورة تستوجبها منظورية الجسد، وكلّ تعطيل في عضو من أعضائه ينجرّ عنه تعطيل في الوعي؛ فيظهر العالم بهذا المعنى للذات المتجسّدة فضاء قُدّ من الدلالات، ومساحة مشحونة بالقيم والمعاني، ومجالا للترميز والتمعين، لأنّه حاصل ما تفهمه وتدركه وتعرفه الذات المتجسّدة. وبما أنّني لا أمتلك الوعي الحقيقي بجسدي إلاّ في الفعل، وبما أنّ الفعل يقتضي في تحقّقه التغافل على الجسد للانخراط في العالم، فإنّني لا امتلك الوعي بجسدي إلاّ بتوسّط الوعي بالعالم. ولكنّ جسدي ليس جزءا من المكان وإنّما هو ما لا يكون المكان بدونه. إذ يمكن أن نقول إنّ جسدي يوجد دائما هنا ولكن "هنا" هذه لا مكان لها بل هي ما قبل المكان، أو هي ما به يكون المكان ممكنا.
مع مرلوبونتي لا يُدرك الجسد باعتباره جسما أو نشاطا عضويا خالصا أو موضوعا للإدراك وإنّما باعتباره الإدراك. ولذلك يرفض الإقرار بقدرة النفس على الفعل في الجسد خاصّة لحظة يتحوّل الجسم جسدا إنسانيا. موقف مرلوبونتي هذا يذكّرنا بالنقد الذي وجّهه سبينوزا للثنائية الديكارتية إذ يقول:" إنّ النفس والجسد شيء واحد تارة نتصوّره بصفة الفكر وطورا بصفة الامتداد"، فثابت عند هذا الفيلسوف أنّ أهواء النفس هي ذاتها نوازع الجسد. "وأنّ الذين يقولون أنّ هذا الفعل أو ذاك من أفعال الجسد متأتٍّ من النفس التي لها نفوذ عليه إنّما يقولون ما لا يعلمون".
انطلاقا من هذا الموقف النقدي يلغي سبينوزا جوهريّة النفس: النفس ليست جوهرا مستقلاّ ومتميّزا، وإنّما هي صوت الجسد وتعبيريّة الرغبة؛ والإنّية تتحدّد بالرغبة التي يسميها سبينوزا "بالكوناتوس": conatus وهو المجهود الذي يبدله الكائن الحيّ للمحافظة على بقائه. وهذا الجهد تدفعه الحاجة والشهوة والإرادة بحسب التداخل بين الرغبة والوعي.
فإذا توقّف الجهد على قدرة النفس وحدها، دون الجسم، أي أنّ الجهد المبذول لا تقف من ورائه مطالب الجسد، فهو "إرادة" وإذا استهدف الجهد تسكين النفس والجسد، فهو شهوة أي كلّ ما يتعلّق بالدوافع الضرورية لحفظ وجود الإنسان وبقائه. أمّا "الرغبة" فتعلّق عموما بأفراد الإنسان من حيث أنّهم يعون رغباتهم: الرغبة هي الشهوة المصحوبة بوعي ذاتها.
اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما، فكثير من الحاجات تكون ملّحة لكنّنا لا نرغب في تحقيقها وبالمقابل هناك الكثير من الرغبات التي تلحّ لإشباعها لكنّنا لا نحتاجها واقعيا؛ وإذا كانت الحاجة صفة مشتركة بين كلّ الكائنات الحيّة، فإنّ الرغبة خاصّية إنسانية محضة،
والإنسان لا يرغب في الشيء لأنّه مستحبّ لديه أو هو طيّب بل هو كذلك لأنّه يرغب فيه ويشتهيه. ولكنّ "الناس يعون حقّا أفعالهم ورغباتهم، إلاّ أنّهم يجهلون العلل التي تجعلهم يرغبون في شيء من الأشياء". وفي الحقيقة توهمّ الحرّية هو استتباع حسب سبينوزا لجهل الإنسان دوافع الفعل، ولعلّ هذا ما دفع سبينوزا للقول "بأنّ الحرّية ليست الفعل عن إرادة بل الفعل عن دراية" وهذا يعني أنّ الإنسان ليس حرّا وأنّ الحرّية تكمن فقط "في الوعي بالضرورة".
وبالرغم من المكانة التي يحتلها الجسد في فكر سبينوزا، فإنّ التحوّل الحقيقي ظهر مع المقاربة الظاهراتية لمرلوبونتي إذ أحدثت قراءته قطيعة مع المقاربة الميتافيزيقية من جهة ومع النظام البيولوجي والأنثروبولوجي من جهة ثانية.
فالانتقال نحو الجسدي هو قفزة نوعية نحو الإنساني، حيث ينفصل الجسد الإنساني عن الجسد الحيّ.  ورمزية الجسد الإنساني ليست منطقية، وإنّما معيشة، وتجربة الجسد تحيل على دلالات لا يمكن ردّها للتفسير العلمي ولا للفهم الميتافيزيقي للإنّية وهذا ما يدفعنا ضرورة للتمييز بين جسد نعرفه connu وجسد نعيشه.  Vécu

ج- من الجــسد إلى العـــــالم:

تستهلك التجربة الإدراكية حضور الجسد الخاصّ في العالم وهو إدراك بسيكولوجي وقصدي في آن، فيعطي مرلوبونتي للإدراك ما يعطيه ديكارت للفكر، حيث يكون الإدراك نشاط الجسد. الحضور في العالم هو حدث من فعل الجسد الإنساني، فإدراك الحيوان يحيل على الوسط milieu في حين يحيل الإدراك الإنساني على العالم   monde أن نفكّر في فلسفة الحضور هو أن نفكّر في عالم الإنسان، وكأنّنا نقول إنّ الحيوان لا يدرك.
هذا التمييز يقتضي النظر للإدراك لا على أنّه معرفة فحسب وإنّما على أنّه خبرة وجودية، لأنّ الإدراك هو الذي يحددّ شكل الوجود. وفي حضور الجسد في العالم نشهد ولادة المعنى. ونحن لا نقيم مختلف الوضعيات الإنسانية انطلاقا من ذات مفكّرة وإنّما انطلاقا من ذات جسدية. إذ يولد نداء العالم من الإمكانية ذاتها الخاصّة بالجسد على إنتاج العالم انطلاقا من الإدراك.
 الوعي في قصديته يتّجه نحو العالم، ولكّنه لحظة يقصد الأشياء يجهل أنّه يقصدها. هكذا تريد الظاهراتية أن تكون نظرة جديدة على العالم، نظرة أصيلة تكون بمثابة العودة نحو المعنى، نحو التجربة، ضدّ النظرة العلمية والميتافيزيقية، إذ تبدو الظاهراتية كخطاب خارج المعرفة، باعتبارها تعليقا للحكم. وباختصار استعادة تلك الدهشة القديمة تجاه العالم، إذ يعتبر مرلوبونتي أنّنا مع العلم ومع المعرفة نميل دائما إلى نسيان العالم. والمقاربة الظاهراتية هي شرط البقاء في عالم الكهف أو شرط العودة إليه. وعودة الإنسان للكهف هي في النهاية عودة للجسد الذي بفضله يحافظ الإنسان على أصالة الوجود في العالم.
وإذا كان بالنسبة لهديجير الوجود في العالم يعني أنّنا دزاين [كائن هنا   Dasein] فإنّه بالنسبة إلى مرلوبونتي الإنسان هو جسد منخرط في العالم، وهذا يعني أنّني لست شيئا من الأشياء المادية في العالم، ولكنّني انخراط في عالم الأشياء والعالم البينذاتي.  وبفضل المنظورية يوجد الإنسان في العالم وفي ذهنه عالم، إذ تمتلك المنظورية أفقا تتقاطع فيه كلّ الإدراكات الأخرى، وهو أفق الذاكرة الثقافية، هذه هي العوالم التي يحيل إليها الوجود في العالم أو الذي يسمّيه مرلوبونتي "بين العوالم l'inter monde، وهي العوالم الذاتية التي تستدعي كلّ الأشياء التي غابت عن عالم المنظورية، والتي يمكن إدراكها. باختصار من جدلية المنظورية والأفق يولد المكان الموضوعي ولكن حتّى نمتلك حدسا أوليّا بالموضوع، وحدسا بالمدركات الأخرى في جدلية النظر والأفق، هنالك تجربة الجسد حيث لا تتحدّث عن الكوجيتو وإنّما عن الأنا المنخرط   Je-engagéأنا في العالم أتعامل بشكل مباشر وهذا هو الذي يسمّيه مرلوبونتي اللحظة الما قبل تفكّرية     préréflexifs،  فأنا هنا يعني أنّ لجسدي وضعية ما   je suis mon corps en situation  وهذا الوضع الذي عليه جسدي هو الذي سيحدّد طبيعة علاقتي بالأشياء من حولي، فالمكان تنظّمه ممكنيات جسدي، وأن أقدّم تحيّة لصديق في الطرف المقابل يفترض انخراط الجسد في كلّيته في العالم ومع الغير.
تبيّن لنا كيف كشف مرلوبونتي خصوصية الجسد من جهة تمييزه عن الموضوع، إذ هو قادر على إدراك ذاته في استقلالية عن الموضوعات، فما تستطيعه الأنانة في الطرح الديكارتي، من جهة قدرتها على الانغلاق على ذاته، يستطيعه الجسد في المنطق الظاهراتي من خلال انفتاحه على العالم أو انخراطه فيه. فثبت لنا أنّ الاعتراف بالجسد هو اعتراف بما كان يعدّ غيرية تشدّنا لعالم الحيوان، وهو اعتراف جعل من الجسد عتبة الإنسانية وأساسها، ولذلك يبدو أنّه من المفيد أن نعلن بعودة الجسديّ احتواء الإنّية للغيرية وهو اعتراف كما استعاد في طيّاته العالم وأشياءه  يستعيد للذات أشياءها الخفية أو المكبوتة، وكأنّنا نعترف بعودة الجسد هذا الأنا الآخر الممتنع عن الاستكشاف أنّ الإنسان في ما يخفى ويُخفي في آن؛ عودة تزيح "الصخرة من مكانها" لتظهر مقولات الفلسفة الإغريقية والميتافيزيقية دون القدرة على الحفر وراء الذات حيث يتبدّى "السّطح سطحيّا جدّا" كما قال نيتشة.
لئن حاولت الظاهراتية الإشتغال على ثالوث الوعي-الجسد-العالم تأسيسا لعلاقة بيذاتية وبينجسدية بين الإنية والغيرية وفكا للحصار الذي لازم تاريخ الوعي طيلة تاريخ الفلسفة؛ فان مدرسة التحليل النفسي مع قطبها الدكتور سيڤموند فرويد كانت قد اشتغلت وفي نفس الفترة تقريبا على ثالوث آخر هو ثالوث الهو[le ça]-الأنا[ le moi] –الأنا الأعلى [le sur moi] هذه البنية المميزة للجهاز النفسي التي ستؤسس علاقة لا واعية في مجملها مع الغير لينقلب الوضع من بيذاتية وبيجسدية واعية بالآخر إلـى “بيجنسية"[intersexualité] لا واعية يتحول ضمنها الغير إلي مجال للرغبات والنزوع الجنسي المكبوت إن لم يكن مجالا للعدوان والعنف الناتج لاعن ممارسة واعية بل عن عقد مضمرة في الخزان اللاشعوري للإنسان الذي يمكن أن ينفلت من دائرة الرقابة الفردية ليصبح شحنة تدميرية أو إبداعية يمكن أن تستهدف الغير كما يمكن أن تنقلب بصورة عكسية على الذات نفسها.

3-الإنـّــــية: من الذات إلى البنية.

أحدثت فرضية اللاوعي في التحليل النفسي رجّة وثورة حقيقيّة في سؤال الإنيّة، إذ أعادت هذه الفرضية تركيب بنية الإنّية، انتقلت بنا من سطح الوجود الإنساني إلى عمقه، ومثّلت إعلانا عن نهاية براديغم الأنانة، أو مثّلت قطيعة إبستيمولوجيّة، كشفت خللا في النموذج، وهي ثورة قد انتقلت بنا من الإنّية البسيطة إلى الإنّية المركبّة. ومن عالم الوعي واليقظة والقصدية إلى عالم اللاوعي والحلم والهفوة.

يعتبر مفهوم اللاوعي من المفاهيم الرئيسية المعاصرة التي أنتجها حقل علم النفس التحليلـي[la psychanalyse]في القرن العشرين مع مؤسس هذه المدرسة الطبيب والمحلل النفسي النمساوي سيڤموند فرويد وهو أيضا من المفاهيم النقدية الكبرى التي سعت إلى تجاوز التوجهات العقلانية في الفلسفة مثل الديكارتية وكذلك التجديد في حقول علم النفس والعلوم الإنسانية لذلك يرى فرانسوا شاتلي أن اكتشاف قارة اللاوعي وبلورة هذا المفهوم نهائيا مع فرويد يعد الحدث الرئيسي الذي ميز عصرنا[فراسوا شاتلي-مقال بعنوان: فلسفة الحداثة-مجلة العرب والفكر العالمي]  وكاستتباع لهذا التعليق يمكن أن نصف سيڤموند فرويد بكريستوف كولومب علم النفس المعاصر نظرا لأنه أزاح النقاب على الجانب الخفي الكامن وراء تفكير الإنسان وسلوكا ته التي كنا نعتقد فيما مضى أنها نابعة عن إرادة حرة وإنية واعية ذات عقل محقق لسيادة” الأنا“ ليكتشف أن هذا العقل المزعوم ليس سيدا حتى في بيته بل هو مجرد خادم مطيع لسيدين اثنين هما” الهو“ و”الأنا الأعلى “ حيث أصبح مفهوم النفس الكلاسيكي منقسما إلى ثلاثة عناصر يسميها فرويد ببنية اللاشعور أو الجهاز النفسي التي يمكن أن نفهمها أكثر بالنظر إلى هذا الجدول:

الأنـــا:[ le moi]

-جانب خاضع لمبدأ الواقع
-الوجه الظاهر للشخصية
-في حالة توتر وقلق مستمرين لأنه بين مطرقة” الهو“ وسندان” الأنا الأعلى“ الشيء الذي يجعله خادما لسيدين في الآن ذاته
-الأنا تدرك وتخاف وتدافع وتقاوم وتخضع
-يحدث أن يفشل” الأنا الأعلى“ في كبت رغبـــات” الهو“ فتتسلل هذه الرغبات اللاواعية إلى الأنا في شكل زلات لسان أو هفوات في الكتابة أو في الأفعال مثل النسيان أو فعل شيء مكان شيء آخر
-إذا فشل الأنا في تحقيق التوازن النفسي بين رغبات” الهو“ وما يفرضه الواقع من كبت وتجميد لمبدأ اللذة من قبل الأنا الأعلى يتحول الوضع إلى حالات مرضية عصابية أو هستيرية مثل بعض الحالات التي يتحدث عنها فرويد في كتاب:” خمسة دروس في التحليل النفسي “(مثل المريضة -ايليزاباث فون.ر- التي وقعت في حب زوج أختها ولما ماتت أختها فرحت ولكنها بعد ذلك أصيبت باضطرابات نفسية نتيجة للصراعات اللاواعية التي كانت تعيشها).

الهــــو: [le ça]

-جانب خاضع لمبدأ اللذة
-الجانب الخفي في الشخصية
-الجزء المرتبط بما هو بيولوجي وغريزي
-خزان للطاقة الليبيدية [l’énergie libidinale] أي الطاقة الجنسية التي تولد الرغبة في إشباع الحاجة الجنسية
-المبدأ المولد لنزوتي الحياة والموت لأنه محكوم بالنزعة الإيروسية [نسبة إلىEros”” “إله الحب في الميثولوجيا الإغريقية] والنزعة التاناتوسية [نسبة إلى thanatos” “إله الموت عند الإغريق]
- ترمي نزعة الحياة إلي إشباع الرغبة الجنسية وترمي نزعة الموت إلى العدوان تجاه الغير فنتحدث عن ما يسميه فرويد بالســـــــادية[le sadisme] أو إلى الرغبة التدميرية للذات فنتحدث عن المازوشـــــــــــية   le masochisme ) ] -لا يعد” الهو“ خزانا للرغبة فقط بل هو أيضا رقعة امتصاص للعقد النفسية التي تبدأ في التشكل منذ الطفولة المبكرة مثل عقدة أوديپ التي تتشكل لدى الطفل كنتيجة لتعلقه الجنسي في المرحلة الفمية بأمه وغيرته الغريزية من الأب الذي يحتل مكانة المنافس في موضوع الرغبة العاطفية لدية والتي يقابلها لدى الإناث عقدة إيلكترا.

الأنا الأعلى: [ le sur moi]

- جانب خاضع لمبدأ الواقع
- دوره مواجهة الرغبات ونزوات الحياة أو الموت ومنعها من التسلل إلى سطح” الأنا“
- يمارس وظائف الضبط والحكم والاتهام والتجريم والإشعار بالذنب والخطأ والخطيئة وبتعبير أدق هو عنصر يمـارس الرقابة الذاتية علــــى الأنا
-هو الجانب الثقافي والاجتماعي والتربوي والديني
-يرجح فرويد في كتاب” الطوطم والمحرم“[totem et tabou]   انه قد نتج بسبب الجريمة الأولى التي وقعت لدى القبائل الطوطمية وهي جريمة قتل الأب مـــن طرف أبنائه الذين منعـهم الأب من ممارسة الجنس مـع جميع نساء القبيلة اللائــي انفــرد بهن لذاته ولكن بعد قــتل هذا الأب أحس الأبناء بالذنب  فقامت العديد من الشعائر التكفيرية عن ذلك الذنب مثل ظاهرة الختان التي هي ممارسة رمزية تحمل طابعا جزائيا بالأساس.

لقد أكد فرويد من خلال نظرية اللاوعي أن الإنسان هو كائن غريزي بالأساس تحكمه عقد الجنس والعدوان بطريقة لا واعية ولاعقلانية حتى وان تظاهر بالعفة والأخلاق والاعتراف بالغير فان ذلك لا يعدو أن يكون إلا حيلة من حيل الأنا الظاهرة التي يسعى الإنسان بها أن يخفي ما يدور داخل لا وعيه العميق الذي يستمد جذوره من الصدمات الطفولية التي تسعى دائما إلى اختزان التجربة الخصوصية للفرد وإمتصاص تاريخه وزمنيته الملتصقة في حميميتها بحضور الغير داخل افقها وتأثيره إيجابا أو سلبا في توازنه أو لا توازنه النفسي الذي قد يتحول إلى حالات مرضية متفاوتة التعقيد ومن هذا المنطلق يكون للبعد الكرونولوجي والتاريخي ضلعا واضح المعالم في مسألة الإنية والغيرية …  

4 ـ إنّية الغيرية


"الغير ليس أنا، ولكنّه أنا آخر" سارتر  

1 ـ الغير بما هو أنا آخـر:

يأخذ "الغير" Autrui في اللغة العربيّة معاني الاختلاف والتعدّد والنفي والتغيّر، وترجع لفظة الغير إلى كلمة غير التي تستعمل عادة للاستثناء بمعنى "لا" وبمعنى" سوى"، ويأخذ " الغير" في الدلالة المعجميّة الفرنسية معنى الآخر من الناس بوجه عام، أمّا "الآخر"   L'autre فيفيد الاختلاف والتميّز، وهذا يعني أنّ مفهوم الغير هو تضييق لمعنى الآخر، وبالتالي فكلّ غير هو آخر ولكن ليس كلّ آخر غيرا، فالغير أخصّ والآخر أعمّ، بمعنى أنّ الآخر المرادف للغير هو الذي يتمّ حصره في مجال الإنسان فقط دون غيره. وتحافظ الدلالة الفلسفية على هذا الاختلاف بين الدلالتين، إذ يحمل الغير في الفلسفة على معنى الآخر البشري، إذ يبرز الغير كآخر بشري مخالف للذات، كما يبرز كائنا مماثلا للذات من حيث التركيب الأنطولوجي، ومن حيث مقوّمات الوعي والإرادة والحريّة؛ وهذا يعني أن بين الآخر والغير تمايزا طفيفا من جهة كون الآخر يختلف عنّي أمّا الغير فهو يختلف ويشبهني في آن.

الإشكال الذي سنحاول تسليط بعض الضوء عليه إذا لا يرتبط بالآخر بعامة وإنّما بالآخر الإنساني أي بالغير، دلالة وحضورا ومنزلة.

الغير والزمان: الذات الإنسانية لا تعيش في الزمان فحسب بل تؤلّفه وتبنيه، ويحتاج الغير شيء من الزمن حتّى يظهر لنا، ولكن العلاقة بين الزمن والغير أكثر عمقا من هذا، فظهوره الأوّل في شكل غريب étranger، ثمّ في الحياة اليومية كمجاور voisins، ثمّ في علاقة أخرى كقريب   prochain   أو صديق...  كلّ هذا وغيره يكشف أنّ الزمنية في النهاية هي زمانية العلاقة.

فما الذي يختلف في الكيان الماثل أمامي إلى درجة تدفعني لاعتباره آخر؟ وما الذي فيه ـ رغم غيريّته يشبهني بحيث يكون غيرا؟ وهل يمثّل الغير في اختلافه تهديدا لي؟ ألا تبيّن درجات الاختلاف والتشابه في الغير عن زمنيّة علاقة الإنّية بالغيرية؟ أليس من الممكن أن نتحدّث عن الغيرية بمنطق الغرابة والغربة والاغتراب كما نتحدّث عنها بمنطق التشابه والمحايثة والمماثلة؟ ألا يعني هذا أنّ الزمان هو الذيّ يحددّ شكل العلاقة بالغير وهو الذي يصنع لهذا الأخير وجها لا يكون حسب إنّية الغير وإنّما حسب إنّية الأنا؟ ألا يعني ذلك في النهاية أنّ مشكل الغير هو في الحقيقة مشكل الأنا، إذ ما الغير إن لم يكن أنا الذي أرفضه أو أخشاه أو أُحبّه باعتباره أنا التي ليست أنا؟

2 ـ الإنيّة والوجود للغـــير:

 * العزلة لا تمكّنني من معرفة ذاتي فحسب بل قد تدفعني إلى الكذب والمغالطة، هنا يجب أن نلاحظ الطابع المفارقي للمغالطة التي من المفترض تكون لإيهام الغير وتظليله وهي هنا لإيهام الذات وتظليلها، ولذلك نحن لا نلمس فرقا بين هذا الشكل من المغالطات ومفهوم "سوء النيّة" لدى سارتر، والكذب على الذات أو سوء النيّة هو شكل من أشكال الرفض لما أكون، بحيث من يقول أنا لا يكون بالضرورة أنا. إنّ ما أكونه بالنسبة لذاتي هو رهين ما أكونه بالنسبة للغير، أليس النمط المزدوج للوجود هذا، أوجد لذاتي وأوجد للغير هو الخاصّية الأساسية للإنّية أو للحقيقة الإنسانيّة؟ ويعني أن يكون الإنسان وجودا لذاته
« L’être pour Soi » أن تكون له مطلق الحرّية في اختيار شكل وجوده من جهة، وأن يكون موضوع ذاته من جهة ثانية. شكل الوجود هذا في مستواه الثاني – أي أن أكون موضوعا ـ هو شديد الصلة بالوجود للغير «être pour autrui» فبأيّ معنى يتحدّد الوجود الإنساني باعتباره وجودا للغير؟
* تكشف تجربة الخجل هذا النمط المزدوج للإنّية بما هي "وجود لذاته": فأن أخجل يعني أن ينتابني شعور مُخزٍ عن الذات، خجل يحرج وجودي ذاته، الخجل إذا يعبّر عن حميميّة الذات التي حوّلت ذاتها موضوعا؛ وهو بهذا المعنى وعي يختلف عن الطابع الاستبطاني التفكّري للكوجيتو المنغلق في عالم الأنانة.
 وهذا يعني أنّ الغير هو الذي يدفعني للعودة إلى ذاتي، فيحدّ من تلك القدرة على الرفض والكذب، لأنّني في هذه اللحظة لا أنظر إلى ذاتي كما أريد أن أنظر إليها وإنّما كما يُنظَر لها، الخجل إذا بهذا المعنى أيضا اعتراف ومعرفة، اعتراف بأنّ الذي هو قبالتي ليس آخر بل هو الغير أو أنا آخر، لأنّه لو لم يكن كذلك لما أحرجني " إذ نظرة كلب لا تحرجني" على حدّ عبارة مرلوبونتي؛ وهو معرفة لا تكون ممكنة إلاّ بوساطة الغير كفعالية نظر، إذ بفضل هذه الفعاليّة يتحقّق شرط المعرفة ألا وهو الموضعة، إذ لا تكون المعرفة ممكنة إلاّ إذا توفّر موضوعها وهذا لا يكون ممكنا في العالم الضمن ذاتي حيث تعجز الذات على تحويل ذاتها موضوعا؛ ولكنّ هذه القدرة على الموضعة هي التي ستكشف الطابع الإشكالي لحضور الغيرية التي كما تكون شرطا ووسيطا تكون عائقا و تهديدا ؟ إذا كان الغير وسيطا بين الذات وذاتها فما الذي يبرّر اعتباره تهديدا؟
 الخطر يكمن في أنّ الغير ينظر إليَّ كشيء، انطلاقا من حركة خرْقاء أو ما شابه، يعتبرني وجودا أخرقا أو فظّا، بحيث تكون هذه الأحكام السمة النهائية لوجودي:

1 / وضعيّة جون فال جون Jean Valjean في البؤساء « Les Misérables » ، فمهما ترفّعت أفعاله وسلوكياته الخيّرة والنبيلة، يبقى بالنسبة للشرطيّ جافيت (Javert) سارقا للخبز، وهو بهذا يجمّده في فعل مضى، ويحدّد كلّ أفعاله اللاحقة بما كان، أو هو في الحقيقة لا ينظر إليه الآن إلاّ بمنظار خارج الزمن والتاريخ.
الغير أيضا يمتلك القدرة على الرّفض وبالتالي الكذب والمغالطة. بل أكثر من ذلك ينتقل موضوع نظره إلى مستوى آخر من الوجود يسمّيه سارتر: "الوجود في ذاته"«être en soi» وهو وجود الأشياء.
2 / شخصية غارسان Garcin، الذي تذكرّه إيناس Inèsدائما بجبنه، و لعلّ ذلك ما دفعه للقول :

Garcin « l’Enfer, c’est les Autres »
سارتر [بلسان قارسان]: "الجحيم هم الاخرين"

ألا يفيد واقع الموضعة المتبادلة أنّ الصراع هو أساس اللّقاء بالغيرية؟ أليس الصراع هو جوهر الوجود الإنساني والشكل الأصيل للرفض؟ وإذا كان في حضور الغير غُنما ما فأيّ غُنم يحقّق الصراع معه؟

5-الإنّية كيان تاريخي: جدلية السيد والعبد هيغل والمادية التاريخية ماركس.
       
يقول ابن خلدون في ”المقدمة “:«التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار …وفي باطنه نظر وتحقيق» ويفهم هذا القول على عدم التعامل مع الظاهرة التاريخية سواء كانت تاريخا شخصيا للفرد أو تاريخا جماعيا للشعوب تعاملا سطحيا بل يجب التحقق من صحة الخبر غيران النظر والتحقيق اللذان دعا إليهما الفكر الخلدوني هما الإعتراف بالتاريخ وبفلسفة الوقائع والأحداث ودور ذلك في هيكلة العمران البشري وفهم التحولات التي طرأت عليه ورصد دور البعد الزمني في موقعة العلاقات الإنسانية فيما بينها لأن حاضر الإنسان هو استتباع منطقي وتواصل بشكل ما لماضيه الشخصي أو الاجتماعي أو الحضاري أو الاقتصادي أو السياسي …
من هذا المنطلق سعى العديد من الفلاسفة إلى فهم الإنساني في تكثره وتنوعه ضمن تصور معين لفلسفة التاريخ وفي هذا الإطار سنكتفي بعرض تصورين كان لهما قيمة كبرى ضمن تاريخ الفلسفة وهما النظرية المثالية الجدلية لجورج ويلهالم فريديريك هيغل(I831-1770) والنظرية المادية التاريخية لكارل ماركس (1883-1818).
الإنسان وعي بالذات. إنه واع بذاته، واع بحقيقته وبكرامته الإنسانيتين. وهو بهذا يختلف اختلافا جوهريا عن الحيوان الذي لا يتخطى مستوى مجرد الإحساس بالذات. والإنسان يعي ذاته في اللحظة التي يقول فيها -لأول مرة- أنا. وإن فهم الإنسان بفهم "أصله" يعني فهم أصل الأنا الذي يكشف عنه الكلام. والحال أن تحليل الفكر أو العقل أو الفهم، الخ، وبصفة عامة، تحليل السلوك المعرفي التأملي المنفعل لكائن أو "لذات عارفة" لا يكشف لنا أبدا لماذا ولا كيف تنشأ كلمة "أنا"، وبالتالي لماذا وكيف ينشأ الوعي بالذات، وأقصد حقيقة الواقع البشري. فالإنسان المتأمل "ينغمس" فيما يتأمله. والذات العارفة تضيع في الموضوع المعروف. لذا فإن التأمل يكشف عن الموضوع لا عن الذات. الموضوع، لا الذات، هو الذي ينكشف لنفسه في عملية المعرفة وعن طريقها. والأفضل أن نقول إنه ينكشف كعملية معرفة. إن الإنسان الذي ينغمس في الموضوع الذي يتأمله لا يستطيع أن "يعود إلى ذاته" إلا عن طريق رغبة كرغبة الأكل على سبيل المثال. فرغبة موجود (واع) هي التي تجعل من هذا الموجود "أنا" وتكشف عنه كذلك عندما تدفعه أن يقول "أنا".
الرغبة هي تحول الوجود المنكشف لذاته بواسطة ذاته في المعرفة (الصادقة) إلى موضوع ينكشف لذات بواسطة ذات متميزة عن الموضوع ومعارضة له. فالإنسان يتشكل وينكشف -لنفسه وللآخرين- في رغبته وعن طريقها. والأفضل أن نقول إنه، كرغبة وكرغبته هو، يتكون وينكشف كأنا، كالأنا المخالف اختلافا جوهريا للاأنا والمعارض له معارضة جذرية. الأنا (الإنساني) هو أنا الرغبة. إنه أنا راغب. وبناء على ذلك فإن الوجود الإنساني، الوجود الواعي بذاته يقتضي الرغبة ويفترضها. وبالتالي، فإن حقيقة الواقع البشري لا يمكن أن تتشكل وتستمر إلا داخل واقع بيولوجي وحياة حيوانية. ولكن إذا كانت الرغبة الحيوانية هي الشرط اللازم لوجود الوعي بالذات، فإنها ليست شرطا كافيا لذلك الوجود. فالرغبة وحدها لا تشكل إلا الإحساس بالذات. وخلافا للمعرفة، التي تجعل الإنسان سجين اطمئنان سلبي فإن الرغبة تجعله يخرج عن ذلك الاطمئنان فتدفعه إلى العمل.
 وبما أن العمل هو وليد الرغبة فهو يرمي إلى إشباعها وهو لا يمكن أن يرضيها إلا عن طريق النفي والقضاء على موضوع الرغبة أو تحويله على الأقل: فلكي أشبع جوعي مثلا، يكون على أن أقضي على الطعام، أو أن أحوله على كل حال. وهكذا فإن كل عمل هو سلب ونفي. وبدل أن يدع المعطى كما هو فإنه يقضي عليه، وهو إن لم يقض عليه في وجوده ففي صورته على الأقل. وكل نفي -سالب للمعطى لا بد وأن يكون فعالا. غير أن العمل السالب النافي لا يكون مجرد عمل هدام. ذلك أن العمل الذي يصدر عن رغبة ما إذا كان يقضي على واقع موضوعي ليشبع تلك الرغبة، فإنه يخلق مكانها واقعا ذاتيا وذلك في فعل ذلك الهدم ذاته وعن طريقه. فالكائن الحي الذي يأكل مثلا يبني ذاته ويحافظ عليها وذلك بأن يقضي على واقع مغاير له، وبأن يحول حقيقة مغايرة ويجعلها حقيقته هو عن طريق "تمثل" حقيقة غريبة خارجية وجعلها حقيقة باطنية. وبصفة عامة، فإن أنا الرغبة هو عبارة عن خواء لا يكتسب محتوى حقيقيا إلا عن طريق فعل النفي الذي يشبع الرغبة بالقضاء على ما ليس أنا، وذلك بتحويله و"تمثله". وهذا المحتوى الحقيقي للأنا الذي يتشكل عن طريق عملية النفي يكون تابعا للمحتوى الحقيقي للاأنا ومتوقفا عليه.
لذا فإن كان موضوع الرغبة هو لا -أنا "طبيعي"، فإن الأنا سيكون هو نفسه "طبيعيا". إن الأنا الذي ينتج عن عملية الإشباع الفعالة لتلك الرغبة سيكون من طبيعة الأشياء التي تقع عليها الرغبة: سيكون إذن أنا شيئيا، أنا حيا فحسب، أنا حيوان. وهذا الأنا الطبيعي الذي يتولد عن الموضوع الطبيعي، لا يمكنه أن ينكشف لذاته وللآخرين إلا كإحساس بالذات، وهو لا يبلغ قط مستوى الوعي بالذات. لكي يكون هناك وعي بالذات، ينبغي أن تقع الرغبة على موضوع غير طبيعي، أي على شيء يتجاوز الواقع المعطى. والحال أن الشيء الوحيد الذي يتجاوز هذا الواقع المعطى هو الرغبة ذاتها.
ذلك أن الرغبة، إذا نظرنا إليها من حيث هي رغبة، أعني قبل إشباعها، لا تكون إلا عدما. إنها ليست إلا خواء لا حقيقة له. وبما أن الرغبة هي انكشاف لخواء، بما أنها حضور لغياب واقع فهي إذن تتميز عن الشيء المرغوب فيه وتختلف عنه. إنها إذن ليست شيئا. وهي ليست كائنا حقيقيا ساكنا، إنها ليست معطى يظل أبدا هو هو. وبناء على ذلك فإن الرغبة التي تنصب على رغبة أخرى، إذا نظرنا إليها من حيث هي رغبة، فإنها ستخلق عن طريق فعل النفي والتمثل الذي يشبعها، أنا يخالف في جوهره (الأنا) الحيواني. وهذا الأنا الذي (يتغذى) على الرغبات، سيكون هو ذاته رغبة تولدت عن إشباع رغبة. وبما أن الرغبة تتحقق كفعل ينفي المعطى، فإن وجود هذا الأنا سيكون عبارة عن فعل.
 لن يكون هذا الأنا إذن كالأنا الحيواني، ساكنا دائما هو هو بل إنه سيكون "سلبيا-نافيا". وبعبارة أخرى فإن وجود هذا الأنا سيكون عبارة عن صيرورة. والصورة العامة لهذا الوجود لن تكون هي المكان وإنما هي الزمان. ويعني استمرار هذا الأنا في الوجود "ألا يكون ما هو عليه (من حيث هو كائن ساكن معطى، كائن طبيعي وخصائص فطرية) وأن يكون (أي أن يصير) ما ليس هو" سيكون هذا الأنا إذن من صنع ذاته: سيصبح (في المستقبل) ما صار عليه (في الحاضر) عن طريق عملية سلب ما كان عليه (في الماضي). على أساس أن عملية السلب هاته قد تحددت بما سيصير إليه.
 إن هذا الأنا إذن هو، في وجوده صيرورة ترمي إلى قصد وغاية، وهو تطور هادف وتقدم واع يتم عن طواعية. إنه عملية تجاوز للمعطى الذي يقدم له والذي يكونه هو ذاته. هذا الأنا هو فرد (بشري) حر (في مقابل الواقع المعطى) تاريخي (بالنسبة لذاته). هذا الأنا، وهذا الأنا وحده، هو الذي ينكشف لذاته وللآخرين كوعي بالذات. إن الرغبة البشرية يجب أن تنصب على رغبة أخرى. ولكي تكون هناك رغبة بشرية ينبغي أن يكون هناك أولا وقبل كل شيء تعدد للرغبات (الحيوانية). وبعبارة أخرى، لكي يمكن للوعي بالذات أن يتولد عن الإحساس بالذات، لكي تتمكن الحقيقة البشرية من أن تتشكل داخل الواقع الحيواني ينبغي لهذا الواقع أن يكون متعددا.
 لا يمكن للإنسان أن يظهر على وجه الأرض إلا وسط القطيع. لذا فإن الواقع البشري لا يمكن أن يكون إلا واقعا اجتماعيا. ولكن، لكي يصير القطيع مجتمعا لا يكفي أن يكون هناك تعدد في الرغبات، بل ينبغي أن تنصب رغبات كل فرد من أفراد القطيع على رغبات الأفراد الآخرين أو على الأقل أن يكون في استطاعتها ذلك. إذا كان الواقع البشري واقعا اجتماعيا فإن المجتمع لا يكون إنسانيا إلا بمقدار ما يكون مجموعة من الرغبات التي تنصب على بعضها البعض بما هي رغبات.
إن الرغبة الإنسانية، أو على الأصح الرغبة المولدة للإنسان، الرغبة التي تشكل فردا حرا، تاريخيا، واعيا بفرديته وحريته وتاريخه شاعرا بتجذره التاريخي، إن هاته الرغبة الإنسانية تختلف عن الرغبة الحيوانية (التي تشكل كائنا طبيعيا، يكتفي بأن يحيا ولا يتخطى مستوى الإحساس بالذات) لكونها لا تنصب على موضوع واقعي، حقيقي، معطى وإنما على رغبة أخرى. ذلك هو الأمر مثلا فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة: فالرغبة لا تكون إنسانية إلا إذا لم يرغب الواحد منهما في جسم الآخر وإنما أن تنصب رغبته على رغبة الآخر، أي إلا إذا أراد أحدهما أن "يمتلك" الرغبة بما هي رغبة، وأعني إذا ما أراد أن يكون "مرغوبا فيه" "محبوبا" والأفضل أن نقول "معترفا به" في قيمته كإنسان، وفي واقعه كفرد بشري. وبالمثل فإن الرغبة التي تنصب على موضوع طبيعي لا تكون رغبة بشرية إلا بمقدار ما تكون رغبة شخص آخر قد "توسطتها" وانصبت على الموضوع نفسه.
فمن طبيعة الإنسان أن يرغب فيما يرغب فيه الآخرون، لأنهم يرغبون فيه. وهكذا فقد يمكن لموضوع عديم الفائدة من الناحية البيولوجية (مثل الوسام والعلم الوطني للخصم) أن يصبح موضع رغبة لأنه يكون موضع رغبات أخرى. إن مثل هاته الرغبة لا يمكن أن تكون إلا رغبة إنسانية. والواقع البشري بما هو واقع مخالف للواقع الحيواني لا ينشأ إلا عن طريق الفعل الذي يشبع مثل هاته الرغبات: إن تاريخ البشر هو تاريخ الرغبات التي تنصب على بعضها البعض. ولكن إذا ما أبعدنا هذا الاختلاف جانبا، فإن الرغبة الإنسانية تماثل الرغبة الحيوانية. فالرغبة الإنسانية تسعى، هي الأخرى لأن تشبع عن طريق عملية سلب بل تحويل وتمثل. إن الإنسان يتغذى على الرغبات مثلما يتغذى الحيوان على الأشياء الواقعية. والأنا البشري، الذي يتحقق بالإشباع الفعلي للرغبات البشرية، يكون هو الآخر، تابعا لما يتغذى عليه متوقفا على غذائه مثلما يتوقف جسم الحيوان على مأكله. لكي يكون الإنسان إنسانا حقا، لكي يختلف الإنسان اختلافا جوهريا حقيقيا عن الحيوان، ينبغي لرغبته الإنسانية أن تنتصر بالفعل على رغبته الحيوانية. والحال أن كل رغبة هي رغبة في قيمة، والقيمة العليا بالنسبة للحيوان هي حياته الحيوانية. إن كل رغبات الحيوانات هي في النهاية تابعة لرغبتها في أن تحافظ على بقائها.
بناء على ذلك فإن رغبة الإنسان ينبغي أن تفوق الرغبة في البقاء. وبعبارة أخرى فإن الإنسان لا يكون إنسانا إلا إذا خاطر بحياته (الحيوانية) من أجل رغبته الإنسانية. ففي هاته المخاطرة وبفعلها ينشأ الواقع البشري وينكشف كواقع. في هاته المخاطرة وبفعلها يكون على الواقع البشري أن يظهر ويثبت ذاته ويتأكد من حقيقته ويقدم دلائله كواقع يخالف الواقع الحيواني الطبيعي ويتميز عنه. لذا فإن الحديث عن "أصل" الوعي بالذات، لا بد وأن يرتبط بالحديث عن المخاطرة بالحياة (من أجل هدف غير حيوي). يكون الإنسان إنسانا إذا ما هو خاطر بحياته ليشبع رغبته الإنسانية، أي رغبته التي تنصب على رغبة أخرى. لكن، أن ترغب في رغبة أخرى معناه أن تضع نفسك مكان القيمة التي ترغب فيها تلك الرغبة الأخرى. وإلا لكانت الرغبة منصبة على القيمة ذاتها أي على الموضوع المرغوب فيه لا على الرغبة عينها. أن أرغب في رغبة آخر معناه إذن أن أرغب في أن تكون قيمتي، أو القيمة التي "أمثلها"، هي القيمة التي يرغب فيها الآخر: إنني أريد أن "يعترف" بقيمتي على أنها القيمة التي ينشدها، أريده أن يعترف بي كقيمة مطلقة. بعبارة أخرى، إن كل رغبة بشرية، كل رغبة مولدة للإنسان خالقة للوعي بالذات وللواقع البشري، كل رغبة بشرية هي في نهاية الأمر تابعة للرغبة في "الاعتراف" ومتوقفة عليها. والمخاطرة بالحياة، تلك المخاطرة التي يظهر عن طريقها الواقع البشري، هي مخاطرة تتوقف على تلك الرغبة.
 وعليه فإن الحديث عن "أصل" الوعي بالذات يعني بالضرورة الحديث عن صراع حتى الموت من أجل الاعتراف. ولولا هذا الصراع حتى الموت لما كانت هناك قط حياة بشرية على وجه البسيطة. وبالفعل، فإن الوجود البشري لا ينشأ إلا تبعا لرغبة تنصب على رغبة أخرى، أي على رغبة في الاعتراف. لا يمكن للوجود البشري إذن أن يتشكل إلا إذا تواجهت رغبتان على الأقل من هاته الرغبات. وما دام كل واحد من هذين الكائنين اللذين يتوفران على مثل هاته الرغبة مستعدا أن يذهب إلى أقصى حد في السعي وراء إرضاء رغبته، أي أنه مستعد لأن يخاطر بحياته -ويقضي بالتالي على حياة الآخر- كي ينال اعتراف الآخر ويفرض نفسه كقيمة عليا على الآخر -فإن مواجهتهما لا يمكن إلا أن تكون صراعا حتى الموت. ولا ينشأ الواقع البشري ويتكون إلا عن طريق مثل هذا الصراع وبفضله. إن الواقع البشري لا يتحقق ولا ينكشف إلا كواقع معترف به. ولكن، إذا كان الناس جميعهم -أو على الأصح إذا كانت جميع الكائنات التي هي في طريقها لأن تصبح كائنات بشرية- تنهج السلوك نفسه، فإن الصراع ينبغي أن يؤدي بالضرورة إلى موت أحد الخصمين أو هما معا.
فمن المستحيل أن يتنازل أحدهما عن نفسه للآخر، أو أن يتخلى عن الصراع قبل موت الآخر، أو أن يعترف بالآخر عوضا أن ينال اعترافه. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن تحقيق الواقع البشري وظهوره سيصبح أمرا متعذرا. والأمر واضح فيما يتعلق بالحالة التي يموت فيها الخصمان معا ما دامت الحياة البشرية -لكونها رغبة وعملا يتوقف على هاته الرغبة- لا يمكن أن تولد وتستمر إلا وسط حياة حيوانية. غير أن التعذر يظل قائما حتى وإن لم يقتل إلا واحد من الخصمين فحسب. إذ ستختفي معه تلك الرغبة الأخرى التي ينبغي أن تنصب عليها الرغبة كي تكون رغبة بشرية. فمادام المنتصر لا يمكن أن يكون محل اعتراف الميّت فإنه لا يمكن أن يتحقق وينكشف في إنسانيته. ولكي يتحقق الوجود البشري وينكشف كوعي بالذات، لا يكفي إذن أن يكون الواقع البشري متعددا بل ينبغي أيضا أن يكون هذا التعدد متفاضلا، أي ينبغي للمجتمع أن يستلزم نوعين من السلوك البشري متمايزين تمام التمايز. لكي يتشكل الواقع البشري كواقع معترف به، ينبغي أن يبقي الخصمان على قيد الحياة بعد صراعهما. وهذا لا يتم إلا إذا نهجا مسلكين مختلفين أثناء الصراع. فعن طريق أعمال حرة لا يمكن ردها إلى أي شيء ولا يمكن التنبؤ بها واستنباطها، ينبغي لهما أن يتشكلا ككائنين غير متكافئين أثناء الصراع وعن طريقه.
 إن أحدهما ينبغي أن يهاب الآخر دون أن يكون مفطورا على ذلك، ينبغي له أن يتنازل للآخر، ويرفض المخاطرة بحياته من أجل إرضاء رغبته في الاعتراف. وينبغي له أن يتخلى عن رغبته وأن يرضي رغبة الآخر: ينبغي له أن يعترف بالآخر دون أن يعترف الآخر به. والحال أن الاعتراف على هذا النحو معناه الاعتراف بالآخر كسيد والاعتراف بالذات كعبد لذلك السيد. وبعبارة أخرى فإن الإنسان في حالة نشأته لا يكون قط إنسانا وكفى. إنه دائما وبالضرورة إما عبد وإما سيد.
 إذا كان الواقع البشري لا يمكن أن يتكون إلا كواقع اجتماعي، فإن المجتمع لا يكون بشريا -على الأقل في أصله- إلا شريطة أن يستلزم عنصرا للسيادة وآخر للعبودية ويقتضي وجودا يتمتع باستقلال ذاتي وآخر يتوقف عليه ويخضع له. لذا فإن الحديث عن أصل الوعي بالذات يعني بالضرورة الحديث عن استقلال الوعي بالذات وخضوعه، (عن السيادة والعبودية). إذا كان الوجود البشري لا يتكون إلا من خلال الصراع الذي يؤدي إلى العلاقة بين سيد وعبد، فإن التحقيق التدريجي لهذا الوجود لا يمكن أن يتم هو الآخر إلا بدلالة هاته العلاقة الاجتماعية الأساسية. إذا كان الإنسان لا يختلف عن صيرورته وإذا كان وجوده الإنساني في المكان هو وجوده في الزمان وبما هو زمان، إذا كان الواقع البشري الذي ينكشف ليس في النهاية سوى التاريخ العام، فإن هذا التاريخ ينبغي أن يكون تاريخ تفاعل السيادة والعبودية. الجدل التاريخي هو جدل السيد والعبد. ولكن إذا كان التعارض بين الأطروحة ونقيضها لا يتخذ معناه إلا داخل التصالح عن طريق التركيب، وإذا كان التاريخ بالمعنى القوي للكلمة لا بد وأن يبلغ حدا نهائيا، وإذا كان الإنسان الذي يخضع للصيرورة مرغما على أن يفصح عن الإنسان النهائي، وإذا كانت الرغبة لا بد وأن تحقق إشباعها، وإذا كانت المعرفة الإنسانية لا بد وأن تمتلك قيمة حقيقة نهائية شاملة الصدق- فإن التفاعل بين السيد والعبد ينبغي أن يؤدي في النهاية إلى "إلغائها الجدلي".

تعبر المثالية الجدلية قراءة فلسفية للتاريخ العام للإنسان أي هي حفر في منطق التاريخ الكلي دون أن تختص في تاريخ معين لحضارة ما أو لشعب من الشعوب وسميت هذه المدرسة بهذا الاسم لان الهيغلية قد سعت إلى تتبع نشأة الفكرة أو المفهوم عبر التاريخ وتطورها ضمن مسار جدلي أي ثنائي قائم على التداول بين السلب والإيجاب، النفي والتحقق، الفعل والانفعال، الاغتراب والتحرر، العبودية والسيادة، الموضعة والتذويت، النكران والاعتراف،  النسبية والإطلاقية…وذلك تتبعا لتشكل الفكرة المطلقة عبر صيرورتها التاريخية (الصيرورة من صار يصير أي تحول عما هو عليه وتبدل من وضع إلى آخر). فحسب هيغل كانت بدايات تشكل العالم من الروح أو الفكرة أو الوعي المطلق (لتقريب الصورة من الأذهان يمكن استحضار ما تحدثت عنه الأديان السماوية بشان قصة الخلق التي انطلقت من فكرة الإله الذي قال للعالم كن فكان) فكانت الطبيعة اللانهائية أولا غير أن العقل المطلق أحس بالاغتراب في الطبيعة فحاول البحث عن ذاته وتجاوز الموضعة التي نتجت له بفعل تحول الفكرة إلى موضوع طبيعي فاكتشفت الطبيعة إمكانية البحث عن العقل داخلها باعتباره ملكة موجودة في الطبيعة ولم تكتشف بعد لذلك قام هيڤل برصد لحظات ظهور العقل ومراحل اكتشاف الإنسان للوعــــــــــي الذي مر بمراحل ثلاث هي: الوعــي” في الذات“[la conscience en soi] (وهي لحظة وجود الوعي كاستعداد طبيعي لم يكتشف ذاته بعد)والوعـي” بالذات“[la conscience de soi] (وهي لحظة اكتشاف الوعي لدي الإنسان باعتباره مبدأ يميزه عن بقية الكائنـات )  والوعــي ”للذات“ [la conscience pour soi] وهي أهم مرحلة في تجربة الوعي نظرا لأنها تجسد لحظة التقاء الوعي الفردي بالوعي الفردي الآخر  وعمل كل منهما على نزع الاعتراف من الطرف المقابل بذاتيته لان طبيعة النظرة الأولى بين إنسان وإنسان آخر تكون عادة مموِضعة أي تتعامل مع الآخر كموضوع وليس كذات مفكرة وواعية ومالكة لما يمكن أن تفتقده الذات الأولى .
إن عملية انتزاع الاعتراف بين الطرفين كانت من ابرز محطات كــتاب ” علم ظهور الــــروح “[la phénoménologie de l’ esprit] لهيغل لان هذه المسألة لا يمكن أن تحل حسب هذا المفكر إلا بخوض الصراع الذي يضع خلاله كلا الطرفين حياته في الميزان فإما أن يعترف به الآخر أو أن يموت، لكن فد يحدث أن يضعف احد الطرفين خلال النزاع فيفضل الحياة لكن تفضيل الحياة في صراع يمكن أن نموت خلاله له ثمن باهض هو أن يقبل الطرف المنهزم بان يكون عبدا للطرف المنتصر الذي انتزع الاعتراف به كذات من طرف الوعي الثاني؛ لكن تاريخ العلاقة بين السيد والعبد لن ينتهي هنا فسيعي العبد إلى استرجاع السيادة المنتزعة وذلك عن طريق العمل وعن طريق تطويع الطبيعة لفائدة السيد الذي سيظل مكتوف اليدين منتظرا لما سيقدمه له العبد من جهد غير أن العبد سيكتشف هذا الدور الذي يلعبه ويعرف انه إذا لم يعمل سيموت السيد جوعا وبذلك يضحي العبد سيدا لسيده والسيد عبدا للعبد فيتحرر الطرف الثاني وتستبدل العلاقة بينهما بعلاقة حقوقية يكون بها لكليهما حاجة للآخر.
لقد حاول هيغل أن يبين من خلال ما يسميه ب: جدلية السيد والعبد، هذه القراءة الرمزية للتاريخ ازدواجية العلاقة بين الإنية والغيرية ذلك لأن الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر ويحتاجه حتى وإن مرت العلاقات البدئية بينهما ببعض العراقيل لذلك يقول: «إن الوعي الذاتي لا يحقق لنفسه الإشباع إلا عن طريق وعي ذاتي آخر». 

لئن انطلق هيغل من مسلمة نشوء الوعي أولا وبروز العلاقات الاجتماعية على ضوئه ثانيا ضمن ابرز لحظات تعرف الروح المطلق على ذاته فان ماركس قد عمل على قلب الجدل الهيغلي معتبرا إياه جدلا يمشي على رأسه ويجب أن نقلبه على قدميه وذلك لسببين: أولا لأن الهيغلية انطلقت من الروح المطلق أي من السماء لتصل إلى الأرض وثانيا لان الوعي حسب المنظومة الماركسية هو نتاج للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية وليس كما هو الشأن بالنسبة لهيغل حيث يقول كارل ماركس في كتاب:” الإيديولوجيا الألمانية“: «ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة بل إن الحياة هي التي تحدد الوعي» ومعنى ذلك وباستعمال المفاهيم الماركسية لا يكون وعي الإنسان الذي هو عبارة عن بنية فوقية[l’ultra structure] تظم كل ضروب الأنشطة الثقافية بم في ذلك اللغة و الدين و الفن والأدب إلا نتاجا لبنية تحتية[l’infra structure] هي المجتمع والاقتصاد والمؤسسات السياسية وهذه البنية هي التي تحدد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد ومن ثم طبيعة الوعي الذي ينتج لذلك يقول ماركس في نفس الكتاب: «إن الوعي هو أولا نتاج اجتماعي ويظل كذلك طالما وجد بشر».
من هذا المنطلق كانت القراءة المادية للتاريخ التي قام بمقتضاها ماركس برصد التحولات الكبرى التي طرأت للوعي استنادا لتأثره بطبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه ومن ثم رصد التغيرات الكبرى للمراحل التاريخية فالإنسان الأول كان يعيش في المرحلة المشاعية البدائية وهذه المرحلة اتسمت بالوجود الاجتماعي البدائي الذي يعكس وعيا قطيعيا نظرا لعدم توفر الأرضية الاقتصادية للاستقرار حيث كان الصيد هو المبدأ الإنتاجي الوحيد الممكن، لكن مع اكتشاف الزراعة بدأت بوادر الملكية في التشكل من خلال ملكية الأرض وملكية العبيد الذين هم القوة المنتجة وفي هذا المجتمع العبودي بدأت بوادر الوعي الطبقي في الظهور نتيجة لوعي العبيد باضطهادهم من قبل السادة وهذا المناخ الاجتماعي هو الذي أسهم في ثورة العبيد و تحويل المجتمع إلى مجتمع إقطاعي شهد هو الآخر علاقات اضطهادية من قبل مالكي الأرض ووسائل الإنتاج تجاه الاقنان هذه الطبقة التي تعمل بمقابل جزء ضئيل من الإنتاج، ومع بروز الثورة الصناعية وتركيز أسس المجتمع الرأسمالي كان الصراع الطبقي مرتكزا بين الرأسمالية البرجوازية والبروليتاريا [le ploritariats] الشغيلة والمضطهدة الشيء الذي يجعل من الثورة حتمية تاريخية قصد تأسيس مجتمع اشتراكي يكون فيه العمال مالكين للمصانع والفلاحين مالكين للأرض لينتهي التاريخ بتصدير الثورة الاشتراكية إلى بقية العالم وتأسيس النظرية الشيوعية الكونية.
لقد حاولت الماركسية الإجابة عن سؤال الإنية والغيرية من منظور تاريخي واقتصادي يجعل من المسألة مجرد صراع طبقي بين إنية مسيطر عليها وغيرية مسيطرة اقتصاديا وسياسيا ويجعل من التاريخ عامل مصالحة بين الطبقات الاجتماعية لكن السؤال الذي يطرح هل يمكن فعلا إيجاد مجتمع خال من الطبقية ومحقق فعلي لعدالة مزعومة ولمصادقة حقيقية بين الإنية والغيرية الشيء الذي يشرع إلى دراسة العلاقات الممكنة بينا وبين الغير هل هي فعلا مبنية على العدوانية أم على الصداقة أم على ضرورة المصادقة؟ 

لقد حاولنا دراسة الإنية في مدلولاتها المختلفة راصدين تكثرها وآخريتها المترامية الجذور بين الوعي والجسدية واللاوعي والزمنية غير أننا لم نكد نفلت خلال هذا التمشي من التعريج على مفهوم الغير[l’ autrui] الذي يعرفه جون بول سارتر بقوله: «هو ذلك الأنا الذي ليس أنا، ولست أنا هو» فالغير وعي مغاير وجسد مغاير ولا وعي مغاير لي ومنفصل عن تجربتــــي الوجودية وعن هويتي وخصوصيتي ومجالي الفكري والوجداني وإن شاركني الإطار الزمكاني [le cadre spatio-temporelle]الذي يحتويني وإياه في هذا العالم، أما الغيرية فهي الانفتاح على مجال الذوات الأخرى المغايرة لي جسدا ووعيا والمختلفة جنسا ولونا ومعتقدا وفكرا وثقافة وتوجها إيديولوجيا. على ضوء هذه الاختلافات الجوهرية بين الإنية والغيرية تبدو أية علاقة بين الذاتيتين شائكة نوعا ما فهل أن هذا الغير المختلف عني مكمل لي أم مكبل لحريتي واستقلاليتي؟ هل يمكن تحقيق مصالحة ومصادقة بينا وبين اللا-أنا أم أن الصراع والتصادم هو النتيجة الحتمية المحتملة والواردة رمزيا أو واقعيا؟ هل يعني الاختلاف بين الذاتين خلاف بينهما؟ إلى ما ترد أسباب الخلاف؟ هل هي وجودية أم طبيعية أم ثقافية أم نفسية أم اقتصادية أم تاريخية؟ كيف يمكن تجاوز حالات الصراع مع الغير وتحويلها من فردانية فوضوية مكرسة للأنانية والانغلاق والوحدة إلى غيرية إنسانوية[un altruisme humaniste] معترفة بالغير ومؤسسة لثقافة الحوار والتسامح والتكاتف والتعاطف ومحولة للوضع الإنساني ومن سباق التدافع إلى أخلاقيات التتابع و من حب البقاء إلى حسن البقاء؟
يمكن للصراع مع الغير أن يتخذ أشكالا مختلفة و وضعيات عدة تتنوع بتنوع الأسباب وتختلف باختلاف نظرتنا له والنتيجة المرجوة قبليا من هذا الخيار لذلك سنحاول رصد هذا المفهوم في بعض المرجعيات الفلسفية التي كنا قد بدأنا الحديث عن بعضها بعد، وذلك وفق هذا الجدول الذي لا نريد به في الحقيقة التأريخ لتاريخ الأفكار الفلسفية بل استعراض بعض أسباب وملابسات العلاقات اللامتوازنة القائمة أساسا على العنف والتعالي وعدم الاعتراف والموضعة والرغبة في التجاوز بين الأنا واللا-أنا الشيء الذي يجعل من الاختلاف بين الإنية والغيرية خلافا حقيقيا قد يعزز الرغبة في الأنانية ويخرجنا من كثرة الإنساني إلى وحدة الفرد:

هوبز والأصل الطبيعي للصراع:
يعتبر هوبز(1679-1588) وهو فيلسوف إنجليزي يصنف تاريخيا ضمن فلاسفة العقد الاجتماعي بان طبيعة الإنسان قائمة أساسا على العدوان تجاه الغير حيث يصف لنا في كتاب ”التنين “ وضعية الإنسان في حالة الطبيعة وهي فرضية عمل انطلق منها بعض الفلاسفة للبحث عن اصل المجتمعات الإنسانية وأصل المؤسسات السياسية التي نشأت لتسوية الوضع الإنساني الموسوم بالعنف الناتج عن التنافس والاحتراس وحب المجد ولكن السبب الأكثر جدية والأكثر استدعاء للعنف هو الصراع لأجل البقاء الشيء الذي يعلن حالة” حرب الكل ضد الكل“ التي لا تعبر إلا على أن” الإنسان ذئب للإنسان“[homo homini lupus] الشيء الذي يستوجب إيجاد حل سياسي لاستنقاذ الإنسان متمثل في اختراع جهاز الدولة عن طريق التعاقد.

فرويد والأصل النفسي للصراع:
-إن توجه سيڤموند فرويد وكما تعرضنا لذلك هو شبيه جدا بما ذهب إليه هوبز حيث يقول في كتاب” قلق في الحضارة“: «إن الإنسان ينزع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب الآخر والى استغلال عمله دون تعويض عنه وإلى استعماله جنسيا دون رضاه و إلى الاستحواذ على ممتلكاته وإهانته و إلى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله »وذلك استنادا إلى النزوع الايروسي والتاناتوسي الذي تحكمه العقد اللاواعية المختزنة منذ الطفولة في الخزان اللاشعوري للهو القائم أساسا على إرضاء مبدأ اللذة الذي يتعارض مع مبدأ الواقع المحكوم بالرقابة الشديدة للأنا الأعلى.

ماركس والأصل الطبقي للصراع:
أساس الصراع حسب التصور الماركسي هو الفروق الطبقية الناتجة عن فروق اقتصادية بين الطبقة الفقيرة والمضطهدة وبين الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج ولذلك يكون الوعي الاجتماعي هو وسيلة لخفض التوتر بين المواقع الاجتماعية قصد تحقيق مجتمع اشتراكي قائم على ديكتاتورية البروليتاريا وفق مبدأ "الأرض للفلاحين والمصانع للعمال".

سارتر والأصل الوجودي للصراع:
-الصراع السارتري شبيه جدا بالتجربة التي تحدث عنها هيغل بين وعي السيد ووعي العبد قبل خوض الصراع الديالكتيكي الرامي لنزع الاعتراف لذلك يقول في أحد مؤلفاته: «إما أنا أو الآخر».
-يقول في كتاب” الأبواب الموصدة“: «الجحيم هو الآخرون» ومعنى ذلك لا يفهم إلا بفهم التوجه العميق للفلسفة الوجودية القائم أساسا على تقديس مفهوم الحرية الفردية الذي لا يكون له أي معنى إذا ما تقاطع مع حرية أخرى لأنا مغايرة الشيء الذي يحدد حرية الطرفين وبالتالي يكون له دور فاعل في تكبيل الأنا وخنق أفقها اللامحدود
-مفهوم الصراع لدى سارتر ليس ديناميكيا كما هو الشأن بالنسبة لهوبز أو ماركس بل هو صراع ستاتيكي ثابت لأنه قائم أساسا على الموضعة للغير والنظر الى الشخص الغريب كشيء كانسان نكرة فاقدا لأي معنى من معاني الإنسانية.

لقد أفرز الوعي العميق بقيمة وخطورة مسألة العيش مع الآخرين بما يتضمنه من أخلاقيات وأدبيات وتنازلات ناجمة عن الاختلافات الطبيعية والنفسية والاجتماعية والإيديولوجية والرمزية العديد من التوجهات الفلسفية والفنية يمكن تلخيصهما بضرب من ضروب المجازفة الفكرية الي تيارين إثنين هما تيار الوحدة وتيار الكثرة:
فلسفة الوحدة:
يرمي  هذا التوجه إلى عزل الفرد عن الغير ونبذ أي شكل من أشكال التواجد الاجتماعي نظرا لأن الإنسان هو كائن يمتاز بالخصوصية الفكرية التي تجعله قادرا على التفكير بمفرده ومواجهة مصيره في معزل عن الوصاية الاجتماعية والرمزية للغير ومن بين أقطاب هذا التوجه نجد المدرسة الفردانية التي من ممثليها المفكر الألماني” ماكس شتاينر“[max Stirner](1806-1856)صاحب كتاب «الفرد و ملكيته» الذي اكد فيه أن الفرد لا يحتاج إلى مجتمع يفرض عليه أنماط القولبة الثقافية والدينية التي تسعى دائما إلى مد الفرد بإجابات جاهزة قد لا تجيب فعليا عن ميولاته وذوقه ونمط الحياة الذي يختاره لذاته، كما أن الأجهزة السياسية التي تحاول إجبار الفرد على أن يكون كائنا عضويا تتوقف حريته بمجرد حضور الآخر ضمن مجاله هي أنماط قمعية تسعى دائما إلى تأكيد ذوبان القيمة المتميزة لما يحق للفرد أن يملك من خيارات وحريات فعلية لذلك يرفض هذا الفيلسوف الديمقراطيات القائمة على تغليب رأي الأغلبية على حساب الأقليات التي هي فئة من المجتمع يحق لها أن تختار ما تراه مناسبا لتسيير شؤونها·
إن أطروحة هذا التيار، وإن دعت إلى عدم المجازفة بالفرد والتضحية بخصوصيته في سبيل إسعاد المجموعة، قد تناست أن الفردانية المبالغ فيها هي فوضوية انتحارية لا تنبت إلا الوحشية ولا تنبئ إلا باللا-حضارة··
فلسفة الكثرة:
         إن الحديث عن فلسفات الكثرة ضمن مسألة الإنية والغيرية يرجح استدعاء الأفكار الأخلاقية المعاصرة أكثر من غيرها من بين الأنساق الفلسفية التي تناولت هي الأخرى مسألة الاختلاف التي زخرت بها فلسفة ما بعد الحداثة على سبيل المثال، لسبب بسيط هو اعتبار بعض الكتاب الأخلاقيين أن الحديث عن الغير اليوم موضوع يتسم بأكثر استعجالية من غيره نظرا لما تروجه حضارة المشهد اليوم من صور مروعة لا تشي إلا بانتهاك الغير واستهدافه بضروب العنف والإقصاء المادي والرمزي ومن بين أم هذه التيارت الإنسانوية سنكتفي بالتعرض لمفكرين كان لهما شديد الأثر في عقد المصالحة المفقودة ضمن حلقات تاريخ الإنية الأنانية والغيرية الملغاة وهما المفكر الليتواني الأصل :”إيمانوئيل ليفيناس“ والفيلسوف الألماني :”ماكس شيلر“ :

إيمانوئيل ليفيناس [Emmanuel levinas]
-يعتبر من اكبر المفكرين الذين اتسمت كتاباتهم بالخطاب الايتيقي(الاخلاقي) المنفتح على الغير وقد انعكست التجارب التي عاشها في حياته على هذا التوجه حيث ولد بليتوانيا سنة 1905 وهاجرت عائلته إلى روسيا ابان الثورة البلشفية أين عاين عن كثب مآسي الفقر والعنف والتفرقة الاجتماعية بين الفقراء والمترفين ثم سافر إلى فرنسا بمفرده في فترة ما بين الحربين قصد الدراسة الجامعية وفي تلك الأثناء شهدت تلك الفترة صعود النازية التي أحدثت العديد من المآسي من اعتقالات وقتل وتعذيب للأبرياء ولم يسلم هذا المفكر كغيره من المثقفين حيث سجن لمدة خمس سنوات وتعرض جميع أفراد عائلته للإبادة من قبل الجيش النازي وكنتيجة لهذه الظروف التاريخية أطلق صيحة فزع تدعو إلى السلم والتآلف مع الغير فكتب كتابات مضادة للإرهاب والحرب والنازية
-دعا في كتاباته إلى البيذاتية التي تقلص من التماس بين الذوات وتسعى إلى التعامل مع الغير كذات وليس كموضوع لأن التعامل معه كذلك يجعلنا متخارجين عنه والأفضل أن تتداخل ذواتنتا أي أن يجعل كل منا الغير مسؤوليته الرئيسية فالفرد إذا أراد يستطيع أن يفعل أي شيء ضد الغير ولكن الغير يطالبني بكل شيء أيضا لذلك تكون مسؤوليتي تجاهه ما إن يري وجهي وجهه لانهائية
-أبرز فكرة شملها كتابه” الكلية واللانهائية“  تحليل رمزية النظر إلى الغير” وجها لوجه“ التي هي أكثر التجارب أخلاقية لان وجه الإنسان هو الجزء الأكثر تعري لديه وهو كذلك الأكثر افتقارا والأكثر وضوحا وهشاشة تجعله عرضة لكل ضروب العنف ولذلك فان هذا الوجه يكون قادرا على التكلم دون كلام أي أن قسماته وبؤسه المرسوم عليه تكون قادرة في رمزيتها الصامتة والمعبرة في نفس الوقت أن تكلمني وتجبرني على عدم ارتكاب جريمة القتل لان الوجه حسب ليفيناس هو دلالة دون نص.

ماكس شيلر[Max scheler]
-ماكس شيلر هو فيلسوف ألماني معاصر جسد كتابه” طبيعة وصورة التعاطف“  ركيزة فلسفته الأخلاقية حيث قام فيه بدراسة ظاهرة التعاطف والحوار وفهم انية الأنا والآخر قصد تأسيس مشروع حضاري للتعامل بين الأنا والانت من منظور انصهاري متلاحم يؤسس للتواصل ويشرع للكثرة والعيش المتآنس وأكد أن التعاطف هو أساس الانصهار الاجتماعي وفك العزلة عن المجموعات المهمشة والأقليات المستبعدة والمقصاة اجتماعيا أو سياسيا والتي يعبر عنها بالجماعات اللا-عضوية
-عند هذا المفكر يكون أساس الأخلاق كالتزام هو المشاعر التي يحملها كل فرد بداخله والتي تخاطبنا لحظة القيام بالفعل الأخلاقي عن طريق حدس مباشر حاصل عن شعور عفوي لا يستند إلى أية مرجعية دينية أو اجتماعية فلحظة الشعور بالآخر هي اللحظة الحقيقية للأخلاق
-ضمن هذا الفهم الحدسي للأخلاق يحاول شيلر نقد  التصورات التقليدية للأخلاق مثل الأخلاق الدينية التي ترجع الفعل الأخلاقي إلى واجب يمليه الوعي الديني لان الأخلاق الدينية هي أخلاق ملغومة وتحمل العديد من المفارقات التي حاول الكشف عنها خاصة في كتاب ”إنسان الحقد“ ومن ذلك مثلا الوعي الديني يدعو ضمنيا إلى فعل الخير ولكنه يحمل في طياته اللاواعية نوع من التفرقة بين معتنقي  الديانات أو المذاهب المختلفة  وبذلك لم تخرج الأديان من العقد الإيديولوجية الحاملة في طياتها لشحنات الرغبة في العنف فمثلا نجد أن المسيحية هي ديانة تدعو إلى التسامح ولكنها شهدت العديد من الحروب بين الكاثوليك والبروتستان
- ملخص نظرية هذا الأخير هو أن الانفتاح الحقيقي على الآخر والاعتراف به يجب أن يكون عن طريق وعي ذاتي نابع من حدس عاطفي ذاتي وليس من أي املاء خارجي يمليه الدين أو القانون.

 الخاتمة: الإنية بما هي مشروع:


يدافع سارتر على موقف فلسفي مفاده أنّ الإنسان مشروع ذاته وأنّه حرّية مفتوحة على إمكانيات لا نهائية وأنّ إنّيته تتحدّد بالمشروع الذي يختاره لنفسه، فهو دائم التجاوز لوضعيته الأصلية بواسطة ممارساته. ويعتبر سارتر أنّ الإنسان بما هو شخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكلّ إرادة وحرّية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين.
 ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي "كون الوجود سابق على الماهية"، أي أنّ الإنسان يوجد أوّلا ثمّ يصنع ماهيته فيما بعد. إنّه الكائن الحرّ بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصّا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم. إنّ الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدّد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل. فكلّ منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكلّ هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرّية.
 ونحن نقول إنّ الإنسان حرّ وهذا على وجه التدقيق لأنّه ليس موجودا، ولأنّ ما هو موجود لا يكون حرّا، وسارتر لا يفهم عدم الوجود هذا باعتباره لا شيء وإنّما باعتباره إنّية لا تزال في طور الغيرية، والعدم الذي يوجد في قلب الإنّية هو الذي يجعله حرّا، إذ الإنّية لا توجد مع الإنسان وإنّما هي ما يصنعه الإنسان، فما يوجد هو العدم أمّا الإنّية فهي الإمكان، ولأنّها ما يمكن فهي ليست كائنة بل ما يكون؛ وعلى الإنسان أن يختار الإنّية التي يرتضيها لوجوده، وهو اختيار يتّسم بطابع الجزافية المطلقة. وهكذا تكون الحرّية هي وجود الإنسان، أعني عدم وجوده، إلاّ على النحو الذي يكون فيه مشروعا لذاته، وهو مشروع لأنّه وجود يعد بأن يكفّ عن أن يكون عدما، ولأنّه لا يزال وعدا فهو إمكان وجود. والإنسان مرغم على تقبّل هذا الوجود وعلى تحمّل مسؤولية توفير إنّية له؛ يلزم عن هذا القول ـ وهذا هو ثمن الحرّية ـ أنّ الإنسان يحمل على كتفيه عبء ذاته والعالم كلّه.
  وفي النهاية نقول: لا يولد الإنسان إنسانا، وإنّما يصير كذلك، وهذا يعني أنّ الإنسان حرّية وأنّ للحرّية ثمن، وثمن الحرّية هو بناء إنّية تكون جديرة بالإنسانية. وعلى الإنسان أن يختار بين الإنّية والغيرية الصورة التي يرتضيها لذاته، أي أن يتحمّل مهمّة بناء ماهيته، إذ الإنسانيّ مهمّة الإنسان، حيث تكون حقيقته ما يحقّقه أو ما يكون جديرا به.
















تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة