العولمة والتنوع الثقافي

الإشكالية الرابعة : الحياة بين التنافر والتجاذب
المشكلة الرابعة : العولمة والتنوع الثقافي

      مقدمة : طرح المشكلة
إن ملاحظة وتتبع مراحل التاريخ البشري، تظهر أن لكل عصر مفاهيمه، و مصطلحاته، ولكل حقبة تاريخية اهتماماتها وقضاياها و انشغالاتها، وفي مسيرة الفكر الإنساني، تتجدد ألفاظ الحضارة، وتبرز أفكار ومفاهيم جديدة. ومن أهم المفاهيم الجديدة لهذا القرن، مفهوم " العولمة " حيث نجد هذا المفهوم الجديد يفرض نفسه على الحياة المعاصرة من جميع مستوياتها، الفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والتربوية. لذلك فهي من الموضوعات التي تحتاج إلى الفهم والتعمق وإلى إدراك بعدها وغايتها، والوقوف على السياسات التي تتحكم فيها وتقودها. فما هي العولمة ؟ وما هي أهدافها ؟ وكيف السبيل للتصدي لخطرها والحفاظ على الهوية الحضارية؟
I. مفهوم العولمة:
إن العولمة مصطلح تتعدد وتتنوع تفسيراته بحسب المشتغلين في حقله وانشغالاتهم، لذلك يصعب تحديده بدقة، نظرا إلى تعدد المترادفات التي تشير إليه، ومن المترادفات التي تتناولها المقالات والخطب : الدوللة والشوملة والكونانية والعالمية وهي مفاهيم يكثر استعمالها في مجالات التجارة والمالية.
لكن كل هذه المفاهيم تلتقي حسب الدلالة اللغوية في : " جعل الشيء عالميا ".
ويعرفها " مارتن ألبرو " بأنها: " تلك العمليات المتشابكة التي يتفاعل فيها البشر في ظل مجتمع واحد".
ويعرفها " أنتوني جينز" بأنها: " عملية اندماج لمجتمعات العالم كي تنصهر في بوتقة واحدة، مهما تباعدت بينها المسافات، يتشارك فيها كل البشر في الرؤى والخبرات والتحديات ".
ويظهر من خلال هاذين التعريفين: " أن العولمة استراتيجية تنموية جديدة، وجهاز قيادي جماعي للعالم، من طرف مصالح اقتصادية قوية عابرة للأمم وفوق الدول ".
لهذا توصف العولمة بأنها : " إيديولوجية الألفية الجديدة ".
II. ما هي فلسفة العولمة ؟
إن تبلور فلسفة العولمة، وظهورها اقترن بانتهاء الحرب الباردة، وانهيار الشيوعية، وسقوط جدار برلين كرمز لانتصار الليبيرالية، كإيديولوجية أحادية، ومن ظهر ما يصطلح عليه بـ : " النظام العالمي الجديد ". ومن هنا تتحدد بوضوح فلسفة العولمة على أنها:
1 ـ العولمة إيديولوجيا: العولمة هي مرجعية فكرية موجهة، ومبادئ تعبر عن إيديولوجيا خاصة لها أهدافها. والمقصود بالإيديولوجيا هي: " علم الأفكار "، ويعرفها " ايتيان ميناريك " على أنها: " كل منظم لمجموعة من الأفكار والمعتقدات، والفرضيات المشتركة، والمتعلقة بالمسببات والمبادئ المشخصة لمختلف ظواهر الحياة الاجتماعية ". وعليه يمكن فهم " العولمة " واعتبارها منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، ودفع العالم كله للاندماج فيها، وتبنيها والعمل بها والعيش في إطارها. فالعولمة إذا إيديولوجيا تهدف إلى تأسيس لمشروع عالمي متعدد الميادين عبر أسواق عالمية كبرى مفتوحة ومتحررة من كل العوائق.
2 ـ العولمة سوق عالمي: حيث تفتح الحدود، عبر النمو الاتصالي، وتطور التكنولوجيات الجديدة، فتنتقل الأفكار والأشخاص، وتتلاقح الثقافات في فضاءات مفتوحة للجميع، فيصير العالم كله مجرد " سوق " قرية كونية تحكمها معايير ومقاييس المجتمع العالمي، وتعتبر رؤوس الأموال هي المحرك الأساسي للسوق العالمي في جميع الميادين الاقتصادية أو الإعلامية أو التكنولوجية... لذلك لا بد من إعطائها الحرية المطلقة للمرور، وعبور كل الحدود، في ضوء مقاييس التنافس على المستوى العالمي.
3 ـ أقطابها الفاعلون: أي الموجهون للنظام العالمي والمتحكمون في أسس العولمة، والمحركون لآلياتها، وفعالياتها المختلفة، وهم يسمون بأقطاب العولمة الفاعلون كرجال الأعمال، وأرباب الأموال والشركات العالمية، والبنكيين والمصرفيين الكبار، وهم الذين يمثلون الدول العظمى في العالم " الدول السبع الكبار ". ومن هنا يصير هؤلاء هم الذين يحكمون في الدولة حقيقة ويوجهون سياساتها وإستراتيجيتها العالمية " أمريكا نموذجا ".
III. ما هي أهداف العولمة ؟
إن العولمة كإيديولوجية عالمية تسعى إلى تحقيق كثير من الأهداف على أصعدة متعددة، نذكر منها:
ـ تعميق التأثير في الثقافات الإنسانية والسلوك الاجتماعي لإلغاء التمايزات المختلفة ( توحيد الهوية ).
ـ العمل على تحقيق الثراء من خلال جعل التجارة هي العلاج العالمي المناسب لجميع الأمراض الاجتماعية، وذلك بتوسيع دائرة الخيارات الاقتصادية وحركة الاستثمارات الدولية والأسواق العالمية المفتوحة.
ـ السعي لتعميم وسائل الاتصال والتواصل وجعل الفرد جزءا من منظومة عالمية للاتصالات من خلال تشجيع واستثمار القطاع الالكتروني بواسطة مؤسسات كبرى متعددة الجنسيات.
ـ صياغة مجتمع عالمي تذوب فيه كل الشعوب والحكومات وتلغى كل أشكال الحدود والهويات الثقافية والدينية وغيرها، والوصول إلى تعايش عالمي ( قرية كونية )، ونظام عالمي تحكمه إرادة الأقوياء.
IV. ما هي مخاطر العولمة ؟
إن العولمة تبرز كخطر يهدد المجتمعات واستقرارها، ويتمثل خطرها في:
ـ العولمة سوق عالمي تحكمه لغة المال والأعمال والربح والاستغلال بلا وازع لضمير ولا احترام لقيم أخلاقية فهي خادمة للأقوياء وعمالقة الأسواق وتدوس الضعفاء في إطار التذويب الاجتماعي العالمي وطمس الهوية.
ـ أنها عولمة مادية جشعة توجهها الليبيرالية المتوحشة لذلك فهي لا تراعي أبعاد الإنسان الروحية.
ـ أنها عولمة هدامة تشجع على الاضطرابات وخلق الفوضى والأزمات ولم لا الحروب لفتح أسواق جديدة.
انطلاقا من هذه المخاطر فقد ظهرت اتجاهات مختلفة مناهضة للعولمة من أشهرها:
أ ـ موقف " هارالد كليمانطا " : حيث عارض العولمة وعمل على كشف مخاطرها وأكاذيبها من خلال كتابه       " أكاذيب العولمة " ويذكر:
  ـ أن العولمة ليست قضاء محتوما لا بد منه، بل هي مجرد سياسة اقتصادية وإيديولوجيا مقصودة تحكمها وتوجهها منظمات دولية عالمية لها هيمنتها وسيطرتها على الاقتصاد العالمي وسياسته كصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمي للتجارة...
 ـ إن العولمة تتميز بالتنوع والتعدد الإيجابي لكنها تبرز عمليا من خلال الهيمنة والسيطرة أحادية الاتجاه، ممثلة في الليبيرالية الأمريكية كخط أحادي يفرض منطقه واتجاهه في جميع الميادين. 
 ب ـ موقف الحركة الحمياتية: وهي حركة عالمية مناهضة للعولمة المتوحشة وسيرها وسياستها العرجاء، لأنها لا تنظر إلى قدسية الإنسان وكرامته، وإنما تراه كأشياء تعامل كبضائع تحدد قيمتها في السوق، من هنا يبدأ الاستغلال وعدم مراعاة العمال وخفض مناصب الشغل، وازدياد عدد الفقراء وانتشار البؤس والحرمان الاجتماعي. كما أنها عولمة فاسدة وديكتاتورية تتحكم في الأسواق المالية والنقدية وتخضع لسلطتها الحكومات والدول خاصة الضعيفة منها، وإغراقها بالديون والفوائد والتبعية ورهن السيادة والاستقلال.
ج ـ موقف الحوار الحضاري: وهو اتجاه ينظر إلى العولمة من ناحيتين:
  فالعولمة قد تكون حسنة من جهة خدمة الإنسان وتقريبها لبعضها ولم الشمل وتحقيق التعايش السلمي والحوار الحضاري العالمي من خلال احترام ذات الآخر وهويته واستقلاله وتميزه وإقامة اقتصاد عادل.
كما أن العولمة قد تكون سيئة ومتوحشة تقوم على الاستغلال والإخضاع والسيطرة والتبعية للأقوى، وخدمته وهي عولمة لا تحقق الاستقرار بل تشجع الاضطراب والانفجار الاجتماعي المستمر. وفي إطار العولمة السلبية دائما نجدها عولمة ترتدي لباس الغزو الثقافي وطمس الانتماء والتدمير الأخلاقي في الأمم عبر أجهزة الاتصالات والتكنولوجيات المعلوماتية الحديثة لمحو الموروث الشعبي وإفراغه من أصالته وانتماءاته والترويج لمغريات ثقافات أخرى غريبة في الأخلاق واللباس.
  كل هذه الأسباب وغيرها تظهر الحاجة لضرورة فهم حقيقة العولمة والاستعداد لمواجهة أخطارها.
V. كيف تكون المقاربة بين التنوع الثقافي والعولمة ؟
    إن الجماعة كيان وتنظيم ثقافي، وكل جماعة تعبر عن نفسها وفنها ومعتقداتها وكيانها المتميز بثقافتها، ولهذا يظهر أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة به، مما يؤكد حقيقة التعدد والتنوع في الثقافة كصفة ملازمة لها، وكأن التعدد الثقافي يشير إلى حضارات إنسانية متعددة الأبعاد، بينما على العكس من هذا نجد حضارة العولمة تدعو إلى بناء وتشكيل حضارة ذات بعد واحد، تسعى لجمع الشتات الحضاري والثقافي في وحدة وكتلة واحدة. فهل تنجح العولمة كإيديولوجيا للألفية الجديدة في تحقيق ذلك ؟ وكيف يمكن المقاربة بين التنوع الثقافي ووحدة العولمة ؟
 ـ موقف كانط : يقف الفيلسوف الألماني " كانط " ضد ذوبان الدول والأمم في بوتقة واحدة، ويرفض انصهار وإدماج دولة وأمة في دولة أخرى أو أمة أخرى. ويفضل على هذا التعدد والتنوع على الاختلاط والاندماج من أجل المحافظة على الرصيد الحضاري وقدسية الدولة وتميز هويتها، لذلك لا بد من التمييز بين ما هو خصوصي ذاتي، وبين ما هو عالمي.
  ـ غير أن هذا الطرح الفكري الكانطي يتجاهل العولمة كأمر واقعي اليوم، وكظاهرة يجب التعامل معها، والدليل على هذا التطور الكبير في عالم الاتصالات والمعلوماتية، والتحولات العميقة في الثقافة والإعلام والاتصال، ومجموع المتغيرات التي تعرفها الإنسانية اليوم في ميادين الاقتصاد والتجارة والصناعة والزراعة...           فكيف يمكن للأمم التعايش مع كيان العولمة وما مدى إمكانية التصدي لأخطارها ؟
ـ الأمة والعولمة: إن الحضور الفعلي لحقيقة العولمة كواقع من الصعب أن يتجاهله أي إنسان اليوم سواء قبل ذلك بإرادته أو أرغم على ذلك، من هنا كان على كل أمة تريد إثبات وجودها ولا تبقى خارج دائرة الأحداث وعجلة التاريخ، عليها أن تعي ذاتها ككيان وكرصيد حضاري وتفعيل هويتها المتميزة بضرورة المشاركة في صنع معالم العولمة الإيجابية والدعوة إليها وعدم الانهزام والاستسلام أمام الضغوط الخارجية، انطلاقا من إدراك الذات وحب الوطن ورموزه وأبعاد سيادته، والاجتهاد في بناء قوة اقتصادية للأمة واستقرار سياسي وسلم اجتماعي.
وقد أرسى الإسلام كرسالة عالمية وكمنهج حياة التعايش العالمي السليم، دون طمس إرادة الآخر أو تذويبها أو استغلالها، من خلال التعاون على ما هو أفضل لقوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ( المائدة الآية 05 ). ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الإسلام كرسالة عالمية أن نشير إلى أن الفيلسوف الفرنسي المعاصر " روجي غارودي " فيلسوف الحوار، اكتشف من خلال العالم ثقافات إنسانية عريقة تقوم كل واحدة منها على قيم سامية، وسجل اعترافا بما أبدعته عبقرية الإسلام عبر الحضارات من إنتاجات ثقافية، وبما جاد به المسلمون على وجه الخصوص من إضافات أثروا بها التراث العالمي.

خاتمة : حل المشكلة
   إن التنوع الثقافي يبقى تعبير عن تميز الذات الثقافية وخصوصيتها المعبرة عن كيانها المستقل، كما أن العولمة الحقيقة والإيجابية هي التي تقوم على احترام ما هو خصوصي واستثماره ليظهر الإبداع الإنساني بعيدا عن الإمبريالية والهيمنة.




تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية