الترميز : المفهوم والوظيفة

الترميز : المفهوم و الوظيفة
الرمز :
من المصطلحات التي حظيت باهتمام كبير لتشعب المجالات التي يعمل فيها ، اذ يظهر في: المنطق والرياضيات ونظرية المعرفة وعلم الدلالات ، فضلاً عن الفلسفة والادب([1]) لامتداد جذره التاريخي , (فالكلمة تعود الى العصور اليونانية القديمة ، وكان لها تاريخ طويل معقد)([2]) وذلك دليل ما فيه من الاتساع بما يجعل وصف ملامحه كافة امراً تكتنفه صعوبة كبيرة([3]).
اهتم الفلاسفة الاقدمون بقضية الرمز ، فافلاطون([4]) Platon في (موقفه من الشعر ، وانه يحدث اثراً سيئاً في الجمهور يعتمد معظمه على العمل الرمزي في ذلك الجمهور... اما ارسطو طاليس Aristote ، مقترح هذا اللون من النقد ، فقد اكد قيمة العمل في المسرحية... وبذلك جعلنا نرى في الشفقة والخوف عملين رمزيين)([5]) وقد اصبح تقسيم([6]) ارسطو للرمز مصدر الدراسات اللاحقة ، ذلك التقسيم الذي رد الرمز الى ثلاثة مستويات رئيسة: الرمزي النظري او المنطقي الذي يتجه الى المعرفة ، والرمز العملي الذي يعني الفعل ، والرمز الشعري او الجمالي الذي يعني حالاً باطنية معقدة من احوال النفس ، وموقفاً عاطفياً او وجدانياً([7]) فقد كان ارسطو يتناول في منطقه حدوداً كلية ، وكان يفترض ان هذه الحدود تدل على وجود واقعي محسوس لما يندرج تحتها من افراد([8]) ، وهذا راجع الى (المنطق الذي لا يعدو ان يكون تصنيفاً رمزياً للمعرفة الصورية الخالصة ، والرمز الاخلاقي العملي يعنى بالمبادئ والقواعد التي تنظم السلوك ، اما الرمز الجمالي ، الاستيطيقي ، فيرد الى انطباعات ذاتية واحوال وجدانية وهو الذي يتكشف في مجالات الابداع الفني)([9]) التي زادها الباحثون اتساعاً ، فقد تابع الفلاسفة اللاحقون قضية الرمز ، فارجع "كانت" Kant" " قدرة الرمز في الايحاء الى العلاقات الداخلية بين الرمز وما يدل عليه([10]) ، اما "هيجل" "Hegle" فقد جعل للرمز قيمة "استنتاجية" بدل القيمة التماثلية ، او التشابهية التي اختطها "كانت" فالاستنتاج هو رمز الانسجام الكوني في صفاته ومظاهره([11]).
اتجه "فرويد"S Freud" " بالرمز اتجاهاً مضاداً ، فقد عمل على تحويل الرمز الى اشارة ، واصبحت الرموز لديه ، عبر الاحلام ، تعبر عن غرض محدد هو المكبوت او المحرم ، او غير المباح ، ولاسيما في العلاقات الجنسية ، وهذا ما حد من طاقة الرمز واضعفها الى ادنى مستوى لها ، ويقاربه في ذلك ، كلود ليفي شتراوس ،  بمنهج مختلف ، اذ يحول التحليل النفسي ، او بنيوية شتراوس ، الرمز الى دالول "اشارة" ، او في افضل الاحوال الى مرموزة [قصة رمزية] حسب([12]).
لكن "يونغ" "Jung" تلميذ "فرويد" ، يتخذ منهجاً مضاداً ، اذ اصبح لديه مفهوم واسع للخيال الرمزي ، يمكن ان يمتد من الدلالة القريبة تعبيراً عن غريزة جنسية الى ان يكون معنى روحانياً ، وهو ما سماه "المثال الاصلي" وهو نظام من الامكانات الكامنة ، ومركز قوة غير مرئية ، او ، عناصر بنية للنفس تتصف بالقوة والارادة الالهية ، بنية منظمة للصور ، ولكنه يحيط بالترسبات الفردية ، الذاتية والاجتماعية لتشكيل الصور([13]) ، وقد ربط "اندريه لالاند" Lalande"  A" في تعريف الرمز بين الدال المادي وما يستحضره من قيم غائبة ، او مالا يمكن ادراكه ، وهو ما يقارب تعريف "يونغ" الذي يربط الرمز بعلاقات الحضور والغياب ، وبهذا يتجاوز "يونغ"([14]) نظر استاذه "فرويد" الذي جعل الرمز يوصل ، في نهاية المطاف الى الجنسية ، غير الناضجة ، او غير المشبعة ، فتتحول كل الصور والرموز الى تلميحات ، او اشارات ، متخيلة للاعضاء الجنسية الذكرية منها والانثوية([15]).
فالرمز : افضل رسم ممكن لشيء غير معروف نسبياً ، ولا تعرف طريقة اكثر وضوحاً للوصول اليه([16]) ، فهو يقوم على علاقة غير واضحة بين شيئين ، الاول: حاضر يتمثل حسياً بدال ، والثاني: غائب تسعى الدلالة الى بلوغه ، فينوب الاول عن الثاني ويصبح بديلاً ممثلاً عنه([17]).
الرمـز بلاغيـاً :
أ‌-      قديمـاً :
لم ينل الرمز من لدن البلاغيين الاهتمام نفسه الذي نالته اقسام البلاغة الاخرى ، فقد اتفقت كلمة البلاغيين مع اصحاب المعجمات على ادراج المعنى اللغوي ، وهو الاشارة الى قريب على سبيل الخفية ، اما في الاصطلاح فقد جعل من ضمن الكناية غالباً([18]) ، وقد نقل الدكتور احمد مطلوب([19]) اراء القدماء ، فالجاحظ جعل الرمز او الاشارة – من دون تمييز بينهما- من ادوات البيان الخمس([20]).
ولعل في قول ابن وهب الكاتب مزيد بيان لما اجمله الجاحظ وغيره: (واما الرمز فهو ما اخفي من الكلام, وانما يستعمل المتكلم الرمز في كلامه في ما يريد طيه عن الناس ، والافضاء به الى بعضهم ، فيجعل للكلمة او للحرف اسماً من اسماء الطيور والوحش ، او سائر الاجناس ، او حرفاً من حروف المعجم ، ويطلع على ذلك الموضع من يريد افهامه رمزه ، فيكون ذلك قولاً مفهوماً بينهما مرموزاً عن غيرهما ، وقد اتى في كتب الاقدمين والحكماء والمتفلسفين من الرموز شيء كثير)([21]) فهذا يجعل دلالة الرمز محصورة في حد معلوم بين الرامز والمرموز اليه ، فتكون دلالته محدودة ، مقصورة على معنى فرض عليه ، اذ ينحو بن وهب في هذا منحى يجعل فيه الاحرف([22]) المقطعة ، والقسم ، في القران الكريم ، من باب الرموز التي اطلع على علمها الائمة المستودعون على القران وهي تشير الى ما يكون في هذا الدين من الملوك والممالك والفتن والجماعات...
فهذه الرموز هي اسرار آل محمد ، ومن استنبطها من ذوي الامر وقف عليها ([23]) ، وهذا ما يجعل الرمز شبيهاً باللغز المعمى على غير المرموز اليه ، فلا غرابة ، بعد ، ان عد البلاغيون ، الرمز من الالغاز ، كابن رشيق القيرواني([24]) الذي جعل الرمز في باب الاشارة ، وهو باب مستقل عنده ، الى جانب الالغاز والتعمية واللحن والتورية والتفريق بينها محكوم بشدة الخفاء التي كلما زادت اقترب الكلام من الالغاز.
ولعل عبد القاهر الجرجاني ت471هـ اكثر الاقدمين دقة في تحديد اهمية الاداء الموحي ، برغم جمعه بين الكناية والتعريض والرمز والاشارة في نسق فني واحد ،  نظر الى مجمل الاداء الحاصل بهذه الاساليب ، وما ينتج عنه ، فاهتم بالمعنى ، وهو غايتها ، فقال في حديثه عن اثبات الصفة في الكناية:(هذا فن من القول دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، وهو انا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بان يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض ، كذلك يذهبون في اثبات الصفة هذا المذهب ، واذا فعلوا ذلك ، بدت هناك محاسن تملأ الطرف ، ودقائق تعجز الوصف ، ورأيت هنالك شعراً شاعراً ، وسحراً ساحراً ، وبلاغة لا يكمل لها الا الشاعر المفلق ، والخطيب المصقع ، وكما ان الصفة اذا لم تاتك مصرحاً بذكرها ، مكشوفاً عن وجهها ، ولكن مدلولاً عليها بغيرها ، وكان ذلك افخم لشانها ، والطف لمكانها ، كذلك اثباتك الصفة للشيء تثبيتاً له اذا لم تلقه الى السامع صريحاً وجئت اليه من جانب التعريض والكناية والرمز والاشارة ، كان له من الفضل والمزية او من الحسن والرونق  ما لا يقل قليله ، ولا يجهل موضع الفضيلة فيه)([25]) فقد بدا اهتمام الجرجاني منصباً على المعنى الحاصل من ذكر الصفة ، والاكتفاء بالتلميح منها بذكر ما ينوب عنها ، وهو يزيد هذا الامر ايضاحاً ، برغم دلالة المثال الذي يورده على الكناية عن نسبة: (وتفسير هذه الجملة وشرحها: انهم يرومون وصف الرجل ومدحه ، واثبات معنى من المعاني الشريفة له ، فيدعون التصريح بذلك ، ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبس به ، ويتوصلون في الجملة الى ما ارادوا من الاثبات ، لا من جهته الظاهرة المعروفة ، بل من طريق يخفى ومسلك يدق؟ ومثاله قول زياد الاعجم:
  ان السماحـة والمروءة والنـــدى       في قبة ضربت على ابن الحشرج)([26])
فهذه صفات يمكن ان تنطبق على الرمز كأنطباقها على الكناية ، ذكرها الجرجاني في تمثله هذا وهو ينظر الى البنية اللغوية ، وما تؤدي اليه من معنى ، في حين اهتم سواه بالتقسيمات وما يؤدي اليها ، وهذا ما يميز النظرة الفنية من سواها.
اهتم السكاكي ت626هـ ببيان انواع الكناية والتمييز بينها بدرجة الخفاء وتوسط اللوازم فقال: (متى كانت الكناية عُرضية ، على ما عرفت ، كان اطلاق اسم التعريض مناسباً ، واذا لم تكن كذلك نُظِر ، فاذا كانت ذات مسافة بينها وبين المكنى عنه متباعدة ، لتوسط لوازم ، كما في كثير الرماد ، واشباهه ، كان اطلاق اسم التلويح عليها مناسباً ، لان التلويح هو: ان تشير الى غيرك عن بعد ، وان كانت ذات مسافة قريبة ، مع نوع من الخفاء ، كنحو: عريض القفا ، وعريض الوسادة ، كان اطلاق اسم الرمز عليها مناسباً لان الرمز هو: ان تشير الى قريب منك على سبيل الخفية ، قال:
       رمزت اليّ مخافة من بعلها        من غيرِ ان تبدي هناك كلامها
وان كانت لا مع نوع من الخفاء ، كقول أبي تمام:
       أبَيْنَ فما يزرن سوى كريم        وحسبـك ان يـزرن أبا سعيـد
فانه في افادة ان ابا سعيد كريم ، غير خاف كان اطلاق اسم الايماء والاشارة عليها مناسباً)([27]) ، يبدو هذا التقسيم نافعاً في التمييز بين اقسام الكناية ، ولكنه لايعتمد اداة واضحة تنتمي الى النص ذاته ، بل اعتمد مرجعاً خارجياً هو المتلقي ، وما يراه من درجة خفاء في النص التي تختلف من متلق الى اخر ، ولعل هذا الامر نتج من اهتمام السكاكي بالحدود والتقسيمات.
اختلف ابن ابي الاصبع المصري ت 654هـ عن سابقيه ، فهو يريد بيان دلالة بعض الفاظ القرآن الكريم ، فقال في باب الرمز والايماء: (هذا الباب فحواه ان يريد المتكلم أمراً في كلامه ، مع ارادته افهام المخاطب ما اخفاه ، فيرمز في ضمنه رمزاً يهتدى به الى طريق استخراج ما اخفاه من كلامه ، والفرق بينه وبين الوحي والاشارة ، ان المتكلم في باب الوحي والاشارة لايودع كلامه شيئاً يستدل منه على ما اخفاه لابطريق الرمز ولا غيره ، بل يوحي مراده وحياً خفياً لايكاد يعرفه الا أحذق الناس ، فخفاء الوحي والاشارة اخفى من خفاء الرمز والأيماء ، والفرق بينه وبين الالغاز ان الالغاز لابد فيه ما يدل على المعمّى فيه ، بذكر بعض اوصافه المشتركة ، بينه وبين غيره واسمائه ، فهو اظهر من باب الرمز)([28]) وهذا تفريق حسن لكنه يختلف عن السكاكي اذ يجعل الرمز اكثر وضوحاً من الايماء والاشارة التي جعلها السكاكي في اعلى درجات الوضوح ، ويجعل الرمز اخفى الاقسام اذ ليس فيه مايدل عليه من نفسه ، ويعتمد الايحاء فيلتقي مع المفهوم الحديث ، وقد قاده الى ذلك نظره في القرآن([29]) ، وليس في التقسيمات كما صنع السكاكي ، ولكن اللاحقين تركوا رأي المصري وتابعوا السكاكي في شروحهم كصاحبي الايضاح([30]) والمطول([31]).
ب- حديثـاً :
تابع دارسو البلاغة في العصر الحديث ما انتهى اليه الرمز عند السكاكي ومن تابعه ، فاثبتوا معناه اللغوي ، ثم الاصطلاحي ، مع امثلة السكاكي نفسها ، فهو كناية قلت وسائطها مع خفاء اللزوم نحو هذا غليظ الكبد كناية عن القسوة او عريض القفا كناية عند البلادة ، فالمكنى عنه خفي غير ظاهر ويتوصل اليه السامع بواسطة واحدة هي عرض القفا وكبر الرأس وهما صفتان تعارفت العرب على ان المتصف بهما ليس من الاذكياء([32]) ، وفي هذا اشارة الى اهمية السياق في بيان دلالة الرمز.
لكن بعض المحدثين نظر الى الرمز مصطلحاً ادبياً حديثاً فجعله مستقلاً ، معرفاً اياه بأنه: (احداث علاقة بين طرفين من خلال حذف احدهما ، وجعل الاخر [اشارة] لطرفه المحذوف)([33]) ولايكاد يفي هذا التعريف الرمز حده ، فحذف احد الطرفين والاشارة الى الطرف المحذوف قاعدة تكاد تشمل انواعاً من المجاز أخر,فضلا عن الخلط الواضحح بين الرمز والاشارة   .
لكن الباحث يقدر اهمية الرمز بقوله: (والملاحظ ان الاتجاه الادبي المعاصر ، يعتمد الرمز بصورة عامة ، ويقلل من الصورة: كالتشبيه والاستعارة ، بصفة ان الرمز اكثر فاعلية وقدرة على التعبير عن اوسع الدلالات)([34]) ثم بيّن مستويات صياغته التي حصرها بالمباشرة وغير المباشرة([35]) ، وهذا جزء من اهتمام البلاغة الحديثة بالكناية بالرمز (فالكناية الرمزية اكثر اهمية ، ونقصد بذلك تعويض المجاورة المخصص الذي صار تواضعياً نتيجة لتواتر استعماله في العمليات التواصلية ، وتبعاً لذلك ، كثيراً ما نتحدث عن عملية "الرمز" فحسب ، وليس فك سننه امراً يسيراً لانه يقتضي معرفة الوقائع التداولية)([36]) التي تنتمي الى سياق غير السياق اللغوي ، يرتبط بالمواضعات الدينية والتاريخية والاجتماعية والسياسية وغيرها ، فالرمز يأخذ دلالته من البيئة التي ينتمي اليها.
الرمز في النقـد الحديـث:
           استند النقد الادبي الحديث في اهتمامه بالرمز والترميز الى تاريخ طويل ارتبط غالباً ، بالفلسفة([37]) واللاهوت (فجذور الترميز فلسفية ولاهوتية اكثر منها ادبية ، بل ربما كانت دينية اكثر من أي شيء اخر)([38]) وقد كان الترميز معروفاً لدى الاغريق والرومان عبر الاساطير ، والقصص التي تمثل افعال الالهة والارواح والعقول المخفية ، مرتبطة بالطقوس التي تنتقل الى الافراد وتؤثر فيهم([39]) وهو مايمكن ان يدعى "الترميز القصصي" مقابل   "الترميز التشخيصي" الذي يتمثل في الاخلاق والافكار ، وكلا النوعين قد وجدا في الكتاب المقدس من دون تفضيل لاحدهما على الاخر ، فقد كان الكتاب المقدس مصدراً خصباً للترميز بنمطيه ، وما فيهما من رموز غايتها (الله)([40]) اذ كان (الاهتمام الغامر بحركة التاريخ الالهية ، اكثر من أي شيء اخر ، هو الذي يميز الترميز في الكتاب المقدس عنه في التراث الكلاسي ، فجعله اداة شديدة الفاعلية في الاداب الاوربية اللاحقة)([41]) حتى بلوغها العصر الحديث اذ ظل للسياق الديني اثره([42]) المهم في انتاج الرمز وغايته التي تسعى الى الاتحاد بالمتعالي ، او المطلق جوهر التقنية الشعرية التي مثلها اعلام النهضة الحديثة وفي مقدمتهم: ووردزورث ([43]) ، "Wrdsworth" , وكوليردج ،Tcoleridge S" الذي التفت الى قدرة الرمز في التعبير عن ادق المعاني والافكار ، اذ اعتقد (ان الفكرة بأعلى معاني هذه الكلمة لايمكن الاخبار عنها الا بواسطة [كذا] الرمز ، وكل الرموز ، الا في علم الهندسة ، تنطوي بالضرورة على تناقض ظاهري)([44]) يمتازبه الرمز الشعري من حيث امكان الدلالة من الرمز الرياضي والمنطقي ، اذ ينتمي الرمز ، عند كوليردج ، الى عالم الخيال ، فالخيال ينتج الرمز ، بمقابل الوهم الذي ينتج المجاز([45]) ، (وينشأ الرمز عن الفعل المشترك للعقل والادراك ، فالعقل [القدرة البشرية لما فوق الحسي] والادراك [القدرة التي تعرف وفقاً للاحاسيس] يعملان معاً تحت توجيه الخيال لانتاج الرمز)([46]) الذي ينبغي ان يظل موسوماً بالغموض والخفاء([47]) ، محتفظاً بايلاف الاضداد ، او مايبدو انها اضداد ، فيها الدنيوي والديني ، الزائل والسرمدي([48]) ، فهو طريقة الانسان في التعبير بوضوح عن تجربته في العوالم التي تظل جوهرياً ، غامضة وعصية ، على الفهم لتعلقها بالافكار التجريدية([49]) ، وهي افكار عصية التوصيل الا بطريق الرمز الذي يحدث نمواً في الذات ، فيحصل نوع من الاعتماد المتبادل بين الرمز والذات التي انتجته, فيه إثراء لها ، وتعميق لأثر الرمز فيها([50]).
لقد ظل كوليردج في مفهومه للرمز ، أميناً لتراثه الديني ، اذ ارتبط مفهوم الرمز عنده بالدين من جهة ، وبالخيال من جهة اخرى ، ليلتقي الاثنان عند نقطة واحدة هي "المطلق" فأصل الرمز عنده من فكرة مسيحية عميقة عن الخلق ، وينشأ الرمز بعد كل شيء ، عن الخيال الذي هو تكرار في العقل المتناهي لفعل الخلق الابدي في الكون المطلق([51]) ، وقد كان تعريفه للخيال يلفت الى السياق الديني([52]) في سبيل فهم الرمز لان الخيال اداة الادراك الفضلى في وقت يمكن ان يقال عن الرمز "ان له طابع السر المقدس([53]) ، وقد كان الكتاب المقدس يمثل الانموذج الاصلي للتمثيل الرمزي كله"([54]).
لقد اهتم "ريتشاردز"  Richards"" بالرمز وعده من الوسائل التي يوظف بها الشعر عناصر من التجربة ينبغي اكتسابها على نحو خاص ، برغم صعوبة التوصيل التي يثيرها ، لما فيه من غموض ، وقد تنبأ بانها صعوبة ستزداد في شعر المستقبل ، وهذا يعني زيادة الاهتمام بالرمز وتوظيفه ، وعياً باهميته([55]) ، وقد وافقه في ذلك النقاد الجدد الذين (اعتقدوا بالفعل بان افضل القصائد هي التي تضم اكبر قدر ممكن من الالتباس والغموض والمفارقة ، وقد جاهر كل من بروكس وامبسون في هذه المسألة)([56]) التي ظلت مدار اهتمام النقد ، حتى توسع بعض النقاد في اثر الرمز ليعمموا الرأي (بأن الادب عمل رمزي)([57]) مثلما اعتقد كينيث بيرك الذي صنف العمل الرمزي في ثلاث مرتبات: تبدأ بالحسي ، فالشخصي وتنتهي الى المجرد([58]) ، بيرك يتوسع كثيراً في مفهوم العمل الرمزي حتى يجاوز الادب الى السينما والاحاجي(فهذه الامور كلها انواع من الشعر مليئة [كذا] بالعناصر الرمزية والبلاغية ، وان كان شعراً رديئاً فانه شعر رديء ذو اهمية حية في حياتنا)([59]) ففكرة بيرك عن الرمز تتجه الى تمام العمل الادبي ، بل تتجاوزه الى سواه ، ليعبر عن دلالة فنية ما ، وقد تتجه الرموز المفردة نحو الدلالة الرمزية ايضاً ، لكن الغالب ان التركيز قد جرى على العمل الادبي نفسه ، وما يتركه من اثر في المتلقي الذي يكوّن دلالات جديدة للرمز ، فكل شيء يمكن ان يصبح رمزاً ، او يحمل دلالة في نفسه ، او في ما يتركه من اثر ، فقد احتفظ الرمز بسمته الرئيسة وهي انه موضوع يشير الى موضوع اخر([60]) يجعل الاشياء المادية توحي بالمعاني المطلقة([61]).
الرمز والمدرسة الرمزيـة :
وقع الخلط بين هذين المفهومين لتقارب في التسمية او الاداء ، فالمدرسة الرمزية: حركة ادبية ذات حدود تاريخية وفنية واضحة ، اذ ظهرت في فرنسا في اوئل السبعينيات من القرن التاسع عشر ، وتكامل نضجها في عام 1886، ورداً على حركات ادبية سابقة ، كالانطباعية والبرنانسية اللتين تعبران عن الواقع المحسوس ، فضلاً عن تعارض الانتماء الفلسفي ، فالانطباعية تستند الى الفلسفة الوضعية ، في حين انتمت الرمزية الى الفلسفة المثالية([62]) ، ووفقاً لذلك ، سعى الرمزيون الى التعبير عما هو متسامٍ ، بادخال روح الموسيقى الى الشعر ، ومبدأ "تراسل الحواس" او الخلط بين ادراكاتها المختلفة ، وهذا ما جعل الالفاظ لديهم تنساب تلقائياً مع ارتخاء سيطرة العقل الواعي ، وتغييب ارادة التحكم ، فللألوان ، والحروف ، اصواتها التي هي رموز لها دلالات تختلف من شاعر الى اخر ، بل لدى الشاعر نفسه في لحظتين مختلفتين ، ليصبح الشاعر معها ، وسيلة تكتب القصيدة به نفسها (فالرمزية ادت احياناً الى جعل الشعر من شؤون الشاعر الخاصة بحيث غدا لايمكن ايصاله الى القاريء)([63]) والشعر ينبثق من الروح ليمتنع عن كل تفسير منطقي. وليس الشعر في نظر الرمزية الا تعبيراً عن العلاقات والتطابقات التي تخلقها اللغة لو تركت لذاتها ، حتى عرفت الرمزية بأنها تلك المدرسة التي تدعي انها تصف ما لايمكن التعبير عنه عن طريق السحر والاغراء ، واثارة الاعجاب([64]).
لقد اصبحت مهمة الشعر التعبير عن شيء لايمكن صياغته في قالب محدد ، ولايمكن الاقتراب منه بطريق مباشر ، فالوعي يمنع اللغة من مطابقة الاشياء ، وغياب الوعي او تغييبه يتيح لها الكشف ، بصورة شبه الية ، عن العلاقات الخفية القائمة بينها ، فلابد للشاعر – برأي مالارميه –من ان يستسلم لبادرة الكلمات ، والا ان ينقاد لتيار اللغة ، وللتعاقب التلقائي للصور والرؤى ، وهذا يعني ان اللغة اكثر شاعرية من العقل ، بل اكثر فلسفة منه([65]).
لكن المدرسة الرمزية انتهت الى طريق مسدود ، وآل ابرز اعلامها الى الصمت المبكر لعجزهم عن مواصلة ما اعتقدوا انه البدء الصحيح([66]).
ان ما يهمنا من امر هذه المدرسة هو فهمها للرمز الذي يختلف كلياً عن تعريف الرموز بمعناها المألوف كأن تقول: ان الصليب رمز المسيحية ، فهذه الرمزية هي غير رمزية "دانتي" وذلك بأن الضرب المألوف من الرمزية تقليدي وثابت ، فرمزية "الكوميديا الالهية" تقليدية ، ومنطقية ومحددة ، اما رموز المدرسة الرمزية فانها عادة يختارها الشاعر اعتباطاً لتمثل افكاراً معينة في ذهنه للحظة معينة ، تخلقها مفردات اللغة بما فيها من انسجام وموسيقى ، ولما لها من دلالات يفرضها عليها الشاعر نفسه فتنطلق الرموز من الشاعر لتعود اليه ، في دائرة قد تكون مغلقة احياناً اذ تختلط في القصيدة الاصوات والالوان والصور في تمازج غريب ، وهي تنثال في تداع حر من سيطرة العقل ، او الوعي ، فلا يبقى للمتلقي سوى التخمين رجماً بالغيب ، فغايات الشاعر حبيسة صدره ، ولايهمه من امر التوصيل شيء([67]) لذا يبدو التمييز ضرورياً بين نمطين من توظيف الرمز( فمن المستحب وضع تفريق بين الرمزية الخاصة للشاعر الحديث ، ورمزية قدماء الشعراء المفهومة فهماً حسناً ... ان الرمزية الخاصة تتضمن منظومة ، وباستطاعة الطالب المجد ان يؤول "الرمزية الخاصة" كما يحل مفسر الشيفرة رسالة غريبة([68]).
الرمز والقصة الرمزية والترمـيز :
عد البلاغيون الرّمز من بعض الكناية ، وميزوه منها ، ومن اقسامها الاخر ، وقد يقترب الرمز احياناً من الاستعارة عند بعض النقاد من باب المقارنة بين الاصلين ، او المفاضلة بين اداء كل منهما ووظيفته ، اذ تقتصر الاستعارة على حضور موضعي في جزءٍ ، او اجزاء من النص ، حين يغمر الرمز بأثره النص كله([69]) ، فيكشف عن اكثر من معنى ، ويصبح تعبيراً عما لايمكن التعبير عنه ، حين يوحي بالمعاني التي يريد الكشف عنها([70]) ، ليجمع بين صورتيه: المادية والتجريدية([71]) ، ويتجاوزهما في الوقت نفسه([72]).
وكثيراً ما يختلط الرمز بما يجاوره ، كالقصة الرمزية([73])Allegory وهي من المصطلحات التي اصابها ما اصاب المصطلح المترجم من تفاوت في النقل والصياغة ، فقد اثبتها جبرا ابراهيم جبرا كما هي في اصلها الاجنبي "ليجورة"([74]) وجعلها صاحب معجم المصطلحات الادبية المعاصرة "مرموزة"([75]) فهي سرد ، او تمثيل مجازي ، يعبر عنه لغة ، او تصويراً ، وبذلك فهو يقصرها على الانساق السردية ، اما الدكتور صلاح فضل فيعتقد ان افضل تعريب لها ينبغي ان يكون مركباً: "أمثولة رمزية"([76]) اذ انها تدل على التمثيل الرمزي للافكار المجردة عن طريق الاشكال المستعارة ، فالمصطلح تقني يجاوز الاقنعة في العروض المسرحية ليشير الى التقنيات الكبرى في التعبير الشعري ، وبذلك يرفض ما صنعه جبرا ، وما صنعه الدكتور عبدالواحد لؤلؤة من اختيار لفظة "الترميز" التي قال عنها: اراها افضل كلمة عربية تفيد المعنى الاغريقي للكلمة التي تعني حرفياً: "القول خلافاً" او "قول الشيء الاخر" والترميز من المجاز الذي يقوم على توسيع الاستعارة حتى تخرج عن حدود الجملة فتصبح حكاية تطول او تقصر([77]) ، لكن المترجم يخلط بين امرين: فهو يعتقد ان الترميز الاكثار من استعمال الرمز والتوسع فيه من باب "التفعيل" فالتكسير الاكثار من الكسر ، ومثله التقبيل وهكذا ، ثم يورد امثلة لاتدل على هذا المعنى وانما تدل على اصل المصطلح فمنه التعليم بالامثال كما نجد في الانجيل وكما نجد في قصص التوراة والقرآن , وفي التراث الاغريقي من جمهورية افلاطون فصاعداً وقد ازدهر في الاداب الاوربية في العصور الوسطى واهمها الكوميديا الالهية وفي القرن الثامن عشر في انكلترا نجد افضل امثلة الترميز في كتاب سويفت الشهير "رحلات كلفر" وفي القرن العشرين كتاب اورويل "مزرعة الحيوان"([78]) فبعض هذه النماذج انما تدل على حكاية فيها معنى يظهره تمام القصة التي تكون واضحة في مغزاها كالقصص الشعرية في الشعر العربي ، قديمه – وحديثه ، ، فلا حاجة لادنى جهد للكشف عن المراد ، وربما كفانا الناظم أحياناً عناء الكشف باثباته ما يريد ، وهو ما يظهر في شعر الاحيائيين كالرصافي ومطران وشوقي ، فالاكثار من استعمال الرمز لايؤدي ، ضرورة ، الى الترميز بمعناه الذي اثبته المترجم ، وانما هو خلط بين أمرين.
الرمـز والعلامـة والاشـارة :
اهتم الباحثون([79]) بتصنيف انماط العلامات والاشارات لتمييزها من الرمز ، فغالبية العلماء يرون ان الرمز ينتمي الى مفاهيم وتصورات وافكار ، في حين تدل العلامة على موضوعات واشياء ملموسة([80]) ويمتد هذا الفرق الى الادراك ، فادراك ما يعنيه الرمز يوجب ادراك الفكرة التي يرمز اليها ، اما العلامة فيكفيها ادراك الشيء الذي تدل عليه بالحواس([81]).
وقد عدت الاشارة مطابقة لمحتواها المادي ، فهي تتكون من المشار اليه والمشار في علاقة مطابقة([82]) ، بها حاجة الى الدخول في نظام من([83]) الاشارات لكي تكتسب معناها ، وبذا يمكن القول عنها "انها تشير الى الاشياء بدلاً من القول انها ترمز الى الاشياء او تسميها"([84]) وبذا جرى التمييز بين الرمز والاشارة ، فالاشارة جزء من عالم الوجود المادي ، واما الرمز فجزء من عالم المعنى ، والاشارة مرتبطة بالشيء الذي تشير اليه على نحو ثابت ، فان كلا من الاشارة والرمز ينتمي الى عالم مختلف([85]) عن الاخر ، اذ تنحصر الاشارة في حيز محدود يستجيب للحاجات العقلية او المنطق الصرف ، كما هو الحال عند "ديكارت" حين تنتصر الاشارة على الرمز([86]) ، والرمز غير محدود في ايحائه ، ولكن يمكن ان ترتقي الاشارة لتصبح استعارة او قصة رمزية ، او رمزاً ، محكوماً بطريقة الاستعمال ، والنظام(1) الذي يندرج فيه ، ويمكن ان ينحدر الرمز ليصبح اشارة حسب([87]).
الرمـز والسيـاق :
يرتبط ادراك دلالة الرمز بادراك السياق الذي يرد فيه ويمكن تعريف السياق بانه "كل مجموعة من الرموز المختلفة في الوظائف ، وهي في الاقل ثنائية ، وتقوم بين اطرافها علاقة من التكيف والتبادل"([88]) الذي يتيح للرمز الاندماج في البنية الشعرية ، فيتمركز فيها بما يحمله من امكان دلالي([89]) ذي مستويين متلازمين([90]): الاصل اللغوي الذي لايتخلى عنه([91]) ، والمستوى الدلالي الجديد الذي اكتسبه من دخوله البنية الشعرية ، فالرمز ، او الكلمة الرمز ، لاتنفصل عن جذورها الدلالية العامة ، بل يتأزر العام مع الخاص "الشعري" لانتاج دلالتها والا فقدت متلقيها ، اما شعربتها فتأتي من اكسابها دلالات جديدة توحي شيئاً اخر مضافاً الى دلالتها الاولى.
وظيفـة الرمــز :
يمكن الكشف عن الوظيفة([92]) التي يؤديها الرمز في السياق الادبي بالسؤال عن الحاجة الى استعمال الرمز ، ولاشك في ان جزءا من الاجابة يكمن في سمات الرمز نفسه ، بما يحمله من قدرة على الايحاء ، وفعل مؤثر في اغناء دلالة النص ، حين يعمل في مجاله الفني الصحيح "فالفن اكثر الميادين التي يحل فيها الرمز محل الاشياء والموضوعات"([93]) التي قد تظل واضحة ، مكشوفة للادراك ، فتزداد قيمة الرمز واثره بكونه تعبيراً لاشعورياً قد يمثل الضمير الجمعي([94]) احياناً ، فيتجاوز الواقع الى الايحاء به ، فهو قد "يبدأ من الواقع ولكن لايرسم الواقع ، بل يرده الى الذات ، وفيها تنهار معالم المادة وعلاقاتها الطبيعية لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤيا الذاتية"([95]) فالمبدع به حاجة الى وسيلة تعبير تنقذه من الخضوع الى بؤس الواقع المحدود فكان الرمز الاداة التي تستطيع احتمال الحاجات التي يجب وضعها في صياغة فنية تجسد مظاهر التجربة الشعورية واعماقها "فالرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر ، وهي التي تمنح الاشياء مغزى خاصاً ، وليس هناك شيء هو في ذاته اهم من أي شيء اخر الا بالنسبة للنفس وهي في بؤرة التجربة ، فعندئذٍ تتفاوت اهمية الاشياء وقيمتها"([96]) تبعاً لاثر الشعور في تقديم شيء على اخر([97]) وفقاً لمرجعية مهيمنة.
ان توافر الاحساس بالتجربة الشعورية ، او ما ينتج عنها ليس شرطاً كافياً لايحاء رمزي مؤثر ، اذ لابد من ارتباط ذلك بشرط القدرة والموهبة المتقدة ، "فالرمز الحي لن يولد في ذهن خامل ، او قليل النمو ، لان صاحب مثل هذا الذهن سيلتقي بالرموز الموجودة سلفاً في التراث الثابت ، ولن يستطيع ايجاد رمز جديد الا من كان ذا ذهن شديد التوق والتحرق ، فما عاد يرى في الرمز المملى عليه ارفع تناغم وتركيز في التعبير"([98]) يستطيع ان يجسد ما يجيش في النفس المبدعة من احساسات ، ويستطيع حملها لتصل الى متلق متفاعل معها باستجابة فنية تعيد تمثيل التجربة([99]) والاحساس بها مثلما احست بها نفس مبدعها. لذا يمكن الاطمئنان الى اهمية الرمز ، وفهم كثرة التعريفات التي وردت عليه كثرة توازي اختلاف زوايا النظر التي تلتقي عند بعض النقاط الرئيسة تتصل بجوهر الرمز وتكوينه ، فهو "اقتصاد لغوي يكثف مجموعة الدلالات والعلاقات في بيئة دينامية تسمح لها بالتعدد والتناقض ، مقيماً بينها اقنية تواصل وتفاعل ، وهو لذلك علاج لنقص المنطق ، وضيق البنى التي ترفض التناقض ، كما انه علاج لجمود المعطيات والمفهومات الثابتة"([100]) فبالرمز يستطيع الادب تجاوز الثبات ، والحد الواحد ، الى التعبير عن أوجه التناقض ، او أوجه الثنائيات الجدلية التي تشمل الوجود الانساني.
الرمـز والقنــاع :
القناع من التقنيات الجديدة التي دخلت مضمار القصيدة الحديثة فاعطتها احدى سماتها الرئيسة ، ضمن عملية توظيف الرمز ، فالقناع جزء من الرمز ، او هو وجه من وجوه عملية الترميز "ومن الممكن تماماً ان يرتقي كل قناع محكم الى مستوى الرمز وفاعليته ، لكن الرمز لايتحول بالضرورة الى قناع"([101]) برغم العلاقة المتينة التي تربط الاثنين معاً.
ان اساس مصطلح القناع "مسرحي ً لم يدخل عالم الشعر الا في مطلع هذا القرن [العشرين] ليؤدي وظيفة جديدة تختلف نسبياً عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال المسرح ، وفي الموروثات البدائية قبل ذلك"([102]) اذ ارتبط بمعتقدات الانسان البدائي([103])وممارساته التعبيرية ، وقد عاد الى الظهور في عصر النهضة في مسرحيات تؤديها شخصيات مقنعة لاغراض التنكر والانشاد الغنائي "وربما كان اول من استخدمه في الشعر بوعي ، الشاعر الايرلندي وليم بتلر ييتس   "yeats. B.w "  الذي استمد هذا المصطلح عبر استقصاء عميق لتقاليد طقوس المجتمعات البدائية"([104]).
ان اهم وظيفة يؤديها القناع للالبسه اخفاء الشخصية الحقيقية مع امكان التحدث بلسان من يرمز اليه القناع ، أي انه يحقق البعد الموضوعي ، ويبتعد عن النزعة الغنائية ، وقد كان ت.س . اليوت([105]) "T S  Eliot   "  يسعى لتحقيق هذا النزوع ، أي استعمال عدة شخصيات اقنعة ليعبر عن فلسفته الخاصة التي شاعت في اغلب قصائده ، وبشكل خاص في "الارض الخراب" و "الرجال الجوف" وغيرها([106]) ، مما لم يستطع الشعر الغنائي احتماله.
اما في الشعر العربي فقد ظهر القناع على ايدي شعراء الحداثة([107]) ، وكان البياتي من السباقين الى اكتشاف تقنية القناع ، مقترناً بنظر نقدي واعٍ ، يستند الى ثقافة عرّف بها مصطلح القناع ، لم يزد عليه الدارسون المتخصصون الا يسيرا ، وظل يدور في الدراسات التي اهتمت به ، "فالقناع هو الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته ، أي ان الشاعر يعمد الى خلق وجود مستقل عنه  ، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى اكثر الشعر العربي فيها ، فالانفعالات الاولى لم تعد تشكل القصيدة ومضمونها ، بل هي الوسيلة الى الخلق الفني المستقل ، ان القصيدة في مثل هذه الحال عالم مستقل عن الشاعر – وان كان هو خالقها – لاتحمل اثار التشويهات والصرخات والامراض النفسية التي يحفل بها الشعر الذاتي الغنائي"([108]) واذا كان هناك من شارك البياتي في توظيف هذه التقنية في الشعر من معاصريه ، فانه يقف في المقدمة منهم ، بل هو الرائد بينهم([109]) ، سواء على مستوى السبق الزمني ، وما يتعلق به ، ام على المستوى الكمي ، وما فيه من تنوع في توظيف الشخصيات.
غرض القنــاع:
 اذا كان الغرض من القناع تحقيق الموضوعية ، وجعل النزوع الذاتي يتراجع عن الواجهة ، فان انفصال الشاعر عن ذاته سيتحقق باتحاده برمزه او قناعه ، فالشخصية / القناع لايمكن ان تحضر ابعادها كلها في النص ، وانما ستظهر – شاء الشاعر ذلك ام ابى – باحدى زواياها الاكثر اتفاقاً مع ما يريد الشاعر التعبير عنه ، ولذلك تغدو "الشخصية التي تخلق في قصيدة القناع غير مستقلة عن الشاعر المعاصر ، لانها – بتعبير اخر – اتحاد الشاعر برمزه اتحاداً تاماً ولذا ينبغي ان تتوافر في القناع تلك المواقف والخصائص التي تشبه الى حد بعيد مواقف الكاتب المعاصر وافكاره وازماته وعندها سيكون شخصا القصيدة الشاعر وقناعه شخصاً واحداً"([110]) وربما يكفيه هذا ليحقق شيئاً من الموضوعية([111]) والميل نحو الاداء الدرامي الذي يمنح القصيدة وجودها ، مع القوة في الاداء والتأثير في المتلقي ، وغياب اثرالشاعر.
ضرورة الرمـز والترمـيز :
اظهر اثر الرمز في الادب الحديث انه قد اصبح ضرورة من ضرورات تعبير اكثر فنية حين عجزت الاساليب الصريحة والواقعية عن تعميق اثر الفكرة الشعرية ، وامكان ادراك المتلقي لها بصورتها الدلالية غير المقيدة بحدود الاشارة الحدية ، التي تعيق اندماج العمل الادبي في نظامه الايحائي([112]) الذي هو اصل فيه ، والمبدع الحق من يجيد استنباط الرمز المناسب ، وتوظيفه ضمن النسج الكلي لنتاجه "فالفن هو اكثر الميادين التي يحل فيها الرمز محل الاشياء والموضوعات"([113]).
ومادامت الحاجة قائمة لاكتشاف الرمز ، وتوظيفه ، فانها تدعو كذلك الى تكرار الرمز الواحد لاغنائه ومنحه مزيداً من القدرة على التأثير باعطائه دلالات جديدة ، ثم الاكثار من الرموز ، سواء في العمل الواحد ، ام في اعمال الشاعر مجتمعة ، وهو ما يوصل الى جوهرالترميز في استعمال شخصيات التاريخ واحداثه واشيائه او اسماء المدن والانهار ، او بعض شخصيات الاساطير اليونانية والرومانية وغيرها ، او في ما يبتدعه الشاعر من رمز له ، يظل يعمل على تعميق اثره ، بزيادة سعته ، في مجمل اعماله ، ليحمل عنه عناء التوصيل ، ومهام الاداء التعبيري ، ولذلك يكون "الترميز هنا ضرورة بشرية في منح الحال الاولية ، البدائية ، بعداً جمالياً لم يكن موجوداً في الاصل ، أية كلمة حمالة أوجه ، ويمكن ان تراها من الوجه الذي تريده ، هي شيء واحد ذو دلالات مختلفة"([114]) بحسب قدرتنا على التأويل التي تستند الى مايمكن ان يمدنا به العمل نفسه من امكان للتأويل يختلف باختلاف صيغ التلقي اذ لايمكن ان يكون تطابق تام بين اللحظة الابداعية وما تستند اليه من مرجعية تاريخية لان الفنان لا يتقيد بحدود الزمن([115]).
معنى الترميز :
الرمز وحده لايجعل من العمل الفني عملا رمزيا ، فقد يكون الرمز فاقد القدرة على الفعل والتأثير ، لضآلة في دلالته ، او استهلاك لآثره ، لذا قد يفقد الترميز قدرته ايضاً اذا اقتصر على كشف عن الدلالات([116]) المتنوعة التي تثيرها كلمة تحل في جملة ، او عمل على انها رمز "فعملية رد المفاهيم وارجاعها الى بعضها بعضاً{كذا} ليست هي التفكير ، ولا التفكير المؤدي الى المعرفة او بناء الحقائق ، فالبدائل عن المفاهيم هي الدلالات ، والدلالات ليست سوى انساق من الترميز ، على الا يفهم من الترميز كونه ينبيء عن شيء آخر سواه"([117]) اذ يتطلب الامر فحص البنى اللغوية المكونة للعبارات مع الاخذ بالسياق الذي ترد فيه ، واجراء عمليات التحليل الفني الدقيق ، ذلك بأن "الترميز هو البناء اللغوي ذاته ، الذي لايمكن التفكير به الا باستخدام اجزاء منه لترمز الى اجزاء اخرى منه ايضاً ، ولانجاة ، او خروج منه قطعاً"([118]) فاللغة تحيل على نفسها بما تتضمنه في بنائها قبل ان تتجه الى خارجها ، ليتحقق معنى الترميز بالاتجاه الى الداخل ، وهذا يعني: ان المعنى ، وهو الحصيلة التي تطاردها اللغة ، سيظل بعيداً عن امكان التحقق ما لم يكن للترميز([119]) فعل مؤثر في ذلك التحقق ، وبحث الدلالات المتجددة التي يكتشفها التلقي عبر القراءة "فليست الدلالة [او المعنى] الا هذا الانتقال من مستوى في اللغة الى مستوى اخر ، من لغة الى لغة اخرى ، مختلفة ، فليس المعنى الا هذه الامكانية{كذا} في النقل الترميزي"([120]) ،ولا يعني هذا وجوب امتلاء النص بادوات الترميز ومقوماته من دون السماح لعناصر اخرى بالولوج ، او المشاركة في بناء النص الادبي وانشاء دلالاته ، وانما يعني ارتقاء الترميز ليعطي النص شعريته ، عنصراً مهيمناً على العناصر الاخرى المشاركة في الاداء , فالوظيفة  الشعرية لاتلغي الوظائف الاخرى ، بل تكتفي بالهيمنة عليها ، مع احتواء النص عناصر([121]) اقناعية او اخبارية ينبغي ان تذوب في بنية النص في ظل مهيمنته([122]) الرئيسة ليأخذ شعريته ، واذا ما توجب على الشعر الاحتكاك القسري بعناصر من خارج سياقه. فالتاريخ مملوء بالاحداث ، وتفصيلاته النثرية والسردية ، لكنه يمكن ان يكون مصدراً كبيراً للرموز الموحية التي تتجاوز قسرية الزمان وابعاده ، فيتحول الى وسيلة للشعر([123]) ، بعد استخلاص احداث التاريخ من تفصيلاتها ، واعادة سبكها في نص يعتمد الايحاء ، ليصبح قابلاً للقراءة في خارج رسوم التاريخ وضوابطه ، وان كان هذا لايمنع امكان الاستضاءة به في المواقف التي بها حاجةالى ذلك([124]) ، فيصبح النص ترميزاً للتاريخ وليس نسخاً له ، وهو ما ينطبق على مصادر اخرى يمكن ان يستفيد منها المبدعون في الترميز ، حين تجعل رموزاً معبرة ، او الارتقاء بالكلمات ودلالاتها الى مستوى الرمز ، اذ لم تكن رمزاً ، وهو ما يفتح باب الانتقاء للابداع الواعي ، ليدخلها في نظام رمزي هو الترميز([125]) الذي يتجاوز حدود النظام المنطقي الصارم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية