هل الانسان واضع للانظمة الرمزية ام خاضع لها ؟

                الموضوع : هل الانسان واضع للأنظمة الرمزية ام خاضع لها ؟
      قد تَؤُول المنزلة التي يحظى بها الانسان في الوجود الى البعد الرمزي الذي يمثل المنفذ الذي تنفتح من خلاله الذات على ذاتها وعلى العالم اذ يظلّ الانسان في غياب هذا الوسيط الرمزي خلوا من المعنى مادام الوجود الانساني وجودا مكثفا حول الرمز فالإنسان يتكلم الرمز وينتج الرمز ويستهلك الرمز ولعل هذه المنزلة التي يتمتع بها النظام الرمزي في العالم الانساني هي ما يمثل قادحا للاستشكال الفلسفي اذ ما العلاقة التي تجمع بين الانسان والأنظمة الرمزية ؟ وأي انسان هذا الذي ترتبط حياته بها ؟ هل هو الانسان الفاعل لما يريد ام هو الانسان الخاضع والتابع لها ؟ هل هو الانسان في جوهره كما يجب ان يكون ام هو الانسان الخاضع لحتميات التاريخ ؟ وهل ان السؤال عن الاول يلغي السؤال عن الثاني ام هو يستلزمه ويعقد وجوده ويطرح رهان تحرره مما هو كائن ؟
      ان معالجة متروية للإشكاليات السابقة تضعنا امام رهان نظري يدفع بنا الى تقصي وفهم الوظيفة الاساسية التي من اجلها وُجدت الانظمة الرمزية ورهان عملي يحفزنا الى تأكيد منزلة الانسان في الكون من خلال حثه على التحرّر من كل الاشكال التي قد تمثل تهديدا لما هو انساني في الانسان.  
     لئن كان الموضوع الذي نحن بصدد معالجته يسلّم بحتمية العلاقة بين الانسان والأنظمة الرمزية فان طبيعة هذه العلاقة ظلّت مبهمة فإذا ما كان استكشاف اوجه العلاقة بين الانسان والأنظمة الرمزية يستدعي فحص فعالية الذات الانسانية في هذه الانظمة فان هذا الامر يجعلنا ننفتح على امكانات متباينة تباين فهم الانسان لذاته ان كان كائنا رامزا قادرا على صياغة ما بذاته وعالمه صياغة رمزية ام كان كائنا خضعا لمختلف التأثيرات الاجتماعية والتاريخية ...
   ان فهم الانسان على انه كائن رامز كما ذهب الى ذلك ارنست كاسيرر يجعل من الرمز فصلا نوعيا يفصل النوع الانساني عن بقية الانواع الاخرى التي من جنسه وهذا ما يحيلنا الى ضرورة ادراك معني الرمز الذي يعتبر تمثيلا حسّيا لمعنى ذهني باعتماد علاقة مماثلة أو إيحاء بينهما وكلمة (Symbole) متأتية من الإغريقية (sum-bolein) وتتضمن معنى الجمع و الربط بين أمرين فالرمز في الأصل يحيل إلى التوجه إلى الآخر و التواصل بين الإنسان والإنسان من خلال ربط شكلين منشطرين بمعنى يوحدهما ان الرمز من هذا المنطلق انفتاح على الغير قصد التواصل من خلال أنظمة متنوعة وهذا ما افضي بالكائن الانساني الى البحث عن وضع وسائط رمزية يمارس من خلالها وظيفته الترمزية وفي مفهوم " الوضع " – وهو مفهوم مركزي في الموضوع – دلالة الابداع والإيمان بالقدرات الذاتية للإنسان ورفض لكل ما هو متعالي فمجال الوضع هو مجال الانسان الحرّ الذي يتميز باستقلال الارادة وتحررها من القدر الميتافيزيقي ذاك الانسان الذي آمن بأن مصير الانسان بيد الانسان لذلك عليه ان يؤسس وجوده النوعي من خلال بناء عالمه الخاص ولكن هذا الامر يستدعي تجاوز الذات والاتصال  بالأخر لذلك كانت الحاجة ملحة لإيجاد انظمة رمزية هي بمثابة الوسائط  التي بتوسلها يبني الانسان عالمه الخاص ويرتقي الى مستوى الوجود الانساني الحق الذي يتسامى فيه عن حياة الغريزة التي يشترك فيها مع الحيوان وهذا ما يدفعنا الى التساؤل عن كيفية وضع الانسان لهذه الوسائط الرمزية وعن مدى قدرتها على القيام بوظيفتها التواصلية التي اُبتدعت من اجلها ؟
     يعتبر دي سوسير ان اللغة بما هي" نسق رمزي من الاشارات يمكن ان يستعمل للتواصل " – على حدّ عبارة لالند - تمثل مؤسسة اجتماعية واصطلاحية تقوم بوظيفة تواصلية وضعها الانسان ليتمكن من الخروج من العالم الحيواني المثقل بالإشارات والأصوات المبهمة الى العالم الإنساني المفعم بالإبداع والحرية فتشكلت تبعا لذلك الاصوات ووقع بناء العلامات والرموز وفق صيغ اعتباطية اتفاقية وذاك ما يفسر اختلاف الالسن رغم كونها تشتغل وفق نفس الآلية المتمثلة في التمفصل المزدوج ( التمفصل المزدوج هو التمييز داخل كل خطاب لغوي بين مستويين : الفونيمات وهي أصغر وحدة صوتية غير دالة و المونيمات وهي أصغر وحدة صوتية دالة ولها معنى ) وهذا ما يكشف عن القدرة الابداعية للإنسان في وضع نظام لغوي يكشف به عن ذاته و يحقق من خلاله التواصل مع الاخر اذ ان تعلم اللغة هو في حد ذاته مدخل أساسي إلى عالم الآخرين وممر للانتساب إلى مملكة الإنسان فأنسنة الإنسان ليست نتاج تطور طبيعي من خلال تحقيق الاستعدادات البيولوجية بل هي عملية تظل رهينة الاشتراطات الاجتماعية التي تعين مميزاته النوعية وتنقل له خبرات الجماعة التي راكمتها عبر تاريخها من خلال رموز اللغة بما هي خزان كل ذلك " فاللغة هي شرط امكان أنسنة الانسان وفي غيابها يصير الانسان وحشا خلوا من المعنى " على حدّ قول روزنتال ولا تقتصر وظيفة اللغة بما هي نظام رمزي على تحقيق التواصل الداخلي مع الذات ولكنها تتجاوز ذلك الى ان تمثل الولادة الحقيقية للإنسان اذ يؤكّد بنفينيست أن الإنسان وجد بوجود اللغة فهو و إن كانت له ولادة بيولوجية كسائر الأحياء فإن ولادته الحقيقية كإنسان تتزامن مع اكتسابه اللغة وبهذا الاعتبار تغدو اللغة بمثابة الجهاز الرّمزي الذي ابتدعه البشر ليكون الوسيط الذي يرسم عالم الإنسان فيُرى الانسان من خلاله ويرى إنّه الفضاء الذي يبدعه الإنسان حتّى يقيم فيه ولئن اعتبر بنفينيست اللغة أرقى درجات تحقق ملكة الترميز لدى الإنسان اذ هي النظام الرمزي المثالي الذي تبنى عليه منزلة الإنسان في العالم فإنها ليست النظام الرمزي الوحيد اذ توسل الانسان انظمة رمزية مختلفة للالتحام بالعالم من ذلك مثلا يمكن ان نلاحظ ان المقدس بإمكانه ان  ينهض بهذه المهمة فكيف يكون المقدس اختراعا انسانيا ؟ ولم تمّ وضعه ؟
    تمشيا مع منطلقاته السوسيولوجية يعتبر دوركايم أن كل حقيقة اجتماعية تسببها حقيقة اجتماعية أخرى وهذا ما جعله يستخلص أن الدين بما هو ظاهرة اجتماعية يعود الى المجتمع. ولذلك عرّفه كما يلي " الدين نسق موحد من المعتقدات والممارسات تجاه الأشياء المقدسة، أي الأشياء التى تعتبر محرمة " فبما ان الدين ظاهرة اجتماعية يجب ان تفسّر بوظيفتها الاجتماعية المتمثلة في خلق الوحدة والتماسك الاجتماعي. ومن هذا المنطلق تمثل الشعائر والاحتفالات الدينية مناسبة يجدد فيها الفرد إحساسه بالانتماء إلى المجموعة وبذلك تتماهى هذه الشعائر في مستوى الطبيعة والموضوع والأساليب والنتائج مع مختلف الأعياد والاحتفالات الوطنية والقومية. لذلك يرى دوركاهيم أنّ المقدس ليس بالضرورة قوة متعالية فالدين هو إنتاج اجتماعي وُجد  بهدف تحقيق التواصل بين الفرد وذاته وبين الانا والأخر وبين الانسان والعالم ولعل التأثيل ( التأصيل) الايتيمولوجي لمفهوم الدين يؤكد هذا الامر اذ يرى لالند في " المعجم التقني والنقدي" ان معظم القدماء يقرون ان كلمة " religion " تعود بالأساس الى كلمة " religare " التي تحيل الى معنى الربط بين الناس او بين البشر والآلهة فالدين بتالي نظام رمزي يكشف عن حاجة الانسان الى كائن ارقى متعال يضمن الوحدة للافراد ولئن يبدو ان الانسان المعاصر قد حقق المزيد من التقدم العلمي والتقني ولم يعد في حاجة إلى الفكرة الإلهية فإن "غرانجي" يبيّن أن الإنسان المعاصر ما يزال في حاجة ماسة للمقدس، وفي هذا السياق يقول "فولتير":«لو لم يكن الإله موجودا لوجب اختراعه». هذا يعني أن للمقدس قيمة في حياة الإنسان، فمن المقدس ينشد الإنسان قيمة روحية متعالية.
      لئن بدى وضع الانسان للأنظمة الرمزية فصلا نوعيا به يتميز الانسان عن بقية الانواع التي من جنسه فإن المتأمل لواقع التاريخ الانساني لا يعسر عليه ان يدرك ان هذه الانظمة قد مثلت في لحظات مختلفة عبئا ينوء بحمله الانسان بما انها اضحت علامة استعباد له وهذا ما اشار اليه الموضوع الذي نحن بصدد تحليله من خلال مفهوم " الخضوع " الذي يفترض وجود سلطة خارج الذات تحملها على الطاعة مكرهة فكيف تبدو صورة الانسان الخاضع وإلام تحيل ؟
      قد تبدو اللغة في المقام المباشر مجال تحقق كينونة الانسان و لكن هذا الامر يحجب خطرها الذي يتهدد الانسان كل حين اذ بما انها تشكل اخطر النعم كما ذهب الى ذلك هيدغير دفعت نيتشة الى القول   " الانسان صانع اللغة ولكنّه اول ضحاياها " ذلك ان اللغة لا تقول ما تقول حين تقول وفي ذلك اُولى مخاطرها اذ تجعل الانسان يخضع لنظامها وقانونها من ناحية ولإمكانياتها القولية من ناحية اخرى والتي قد تصل بها الى درجة المغالطة وبذلك تكون اللغة قد حالت دون الانسان وذاته ودون الانسان والأخر من خلال عجزه عن التبليغ بتوسل اللغة لما يريد اذ انها  "اختزالية وتشتيتية" كما يرى برغسون بما تتسبب فيه من تشويه للمشاعر والانفعالات وبما يفرضه اللفظ من تفريغ للشحنات الداخلية للذات اذ انه يفرغ الشعور من بعده الشخصي فيحجب عن الذات حقيقتها ويخدعها  ثم ان حجب الحقيقة هذا الذي مارسته اللغة تجاه الانسان قد يؤول به الى القطيعة بينه وبين ذاته وبينه وبين الاخر ثم ان هذا الخضوع الذي يعيشه الانسان لا  يمكن معاينته على المستوى اللغوي فحسب بل يمكن ادراكه اكثر جلاء في السلطة التي يفرضها المقدس على الانسان حيث يجعل من الفرد مجرد مطيع لمعتقدات ماورائية لا يتسنى له مناقشتها وهي قوى ميتافيزيقية متعالية تحد من تطلعات الانسان ومن حريته بل ان التعلق المفرط بالمقدس يجعل الانسان يسقط في التعصب ويدفعه الى ممارسة العنف تجاه نفسه وتجاه الاخر باسم المقدس وفي ذلك يقول ابن خلدون " ان اشد الحروب ضراوة تلك التي قامت على العقيدة " وانطلاقا من هذا الامر ونتيجة لهذا الخضوع الذي فرضه المقدس على الانسان لم تعد وظيفة الرمز تجميعية وتوحيدية بل باتت تفريقية وتشتيتية اذ انه بقدر تنامي سيطرة الانظمة الرمزية وخضوع الانسان لها فان ذلك يتناسب طرديا مع تزايد العزلة الانسانية الناجمة عن الصراع والعنف الانساني الموجه نحو الانسان ولكن السؤال الذي يتبادر الينا في هذا المستوى هو الى أي مدى بإمكان الانسان ان يكون واضعا للانظمة الرمزية والى مدى بإمكان الانظمة الرمزية ان تحكم السيطرة على الانسان ؟ الا يمكن له ان يفلت من هذا الخضوع ؟
     ان ما يمكن مناقشته في هذا المستوى من الموضوع هو ان حرية الوضع للأنظمة الرمزية  التي اشار اليها الموضوع في البداية ليست مطلقة وإنما تستلزم شروطا تاريخية واجتماعية وعلمية تتضافر في ما بينها بهدف بلوغ لحظة الوضع كما ان الخضوع وان كان جليا في بعض الحالات فهو لايمثل حتمية اذ بامكان الانسان المتسلح بالفكر النقدي ان يكشف ويفضح عملية الخضوع هذه ويكافح من اجل تحقيق حرية الانسان كما تجب الاشارة الى ان عملية الخضوع لا تعود في الحقيقة الى الانظمة الرمزية في حدّ ذاتها وإنما تنبع في قسط وافر منها من التوظيف السلبي لهذه الاليات والى ارادة الخنوع والخضوع لدى الانسان اذ ان الهيمنة التي تنجم عن الاستعمال اللغوي مثلا لا تعود الى سلطة اللغة بقدر ما تعود الى لغة السلطة .
     ان التفكير في علاقة الانظمة الرمزية بالإنسان امر راهن لا يعسر ملاحظة مدى ارتباطه بقضايا الواقع المعيش كما علينا ان نلاحظ ايضا ان العقل الانساني وان انزاح في بعض الاحيان بالإنسان الى بعض المتاهات التي نالت من حريته وكرامته فإنه مع ذلك يبقى الكفيل بتحرير الانسان من كل التهديدات التي تهيمن عليه باعتباره القوة الفاعلة والقادرة والملاذ الاخير له .                           


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية