الاستاذ محمد محجوب يكتب عن المراجعة في البكالوريا و عن برامج الفلسفة...


ما مدى "فلسفية " برامج الفلسفة ؟
ان برامج الفلسفة هي جملة من "المواضعات" التي "اختارها" مجموعة من المؤلفين تنتظم وفق نظام الاشكاليات او القضايا . اذن ، كل برنامج من برامج الفلسفة هو بنية اشكالية تتكون من عناصر اشكالية ، مثلا في شعبة الآداب ، في اطار اشكالية مطلب الكلي، توجد اشكاليات الانساني والعلم والقيم .
ما الفلسفي الذي يضمنه "مطلب الكلي" بما هو إشكالية "كليّة" في برنامج الفلسفة المخصص للبكالوريا ؟
ان التفكير في الكلي ، والسؤال عنه والشك فيه ونقده هو تحرر من الجزئي ، تحرر من اليومي ، ونقلة " من اليومي الى الفلسفي" بلغة برنامج الثالثة آداب . ليس كل شخص يسال عن الكلي ويطلبه ويبحث عنه ، وليس السؤال عن الكلي فطريا وانما هو ابداع فلسفي على طريقة "ابداع المفاهيم" في فلسفة جيل دولوز . قد يسال التلميذ والاستاذ او اي شخص آخر عن التاريخي والجغرافي والمدني والفيزيائي والاقتصادي والادبي والاسلامي ، قد يفكر في الادب والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والتربيتين المدنية والاسلامية الخ....لكن في كل هذه المواد لا يفكر الا في الجزئي في حين في درس الفلسفة لا يفكّر الا في الكلي .
هذه المرتبة من سلم التفكير : التفكير في الكلي ليست افضل او ارقى وانما هي مرتبة مكملة لبرنامج دراسي وبرنامج تكوين تلميذ و برنامج ارساء دعائم مواطن صالح مدني وبرنامج تكوين انسان . فلا يمكن للتلميذ ان يكون تلميذا ، والمواطن ن يكون صالحا والانسان ان يكون انسانا ، اذا لم يتدرب على النظر الى الكلي والوعي به ، لينقل نفسه بنفسه من جحيم الجزئي ، خاصة اذا ما سقط هذا الجزئي في الوثوقي بفعل عقائد الاقصاء والتمييز والتهميش ، الى رحاب الكلي .... أليست الفلسفة خطابا كليا ؟
ان الكلي الذي نبحث عنها في "درس تطهير العقل" بلغة سقراط الثائر على الوثوقيات ، او بلغة الحداثة الثائرة على القروسطية، درس انا افكر ، درس الذات الواعية ، درس انشاء الانا القادرة على ان تقول انا ، درس الانا الذي يمثل نقطة ثابتة في البناء الوجودي والمعرفي والقيمي ، هذا الكلي له تجليات في مجالات متعددة تتراوح بين الانساني والعلم والقيم
اولا: فيم يكمن الفلسفي في مسالة الانساني ؟
بشكل عام ، يمكن الحديث عن الفلسفي في الوعي بتمزق الانساني بين الوحدة والكثرة سواء تعلق الامر بعلاقة النفس والجسد او علاقة الانا بالاخر في مستوى الانية والغيرية او علاقة الخصوصية بالكونية او التواصل بالانظمة الرمزية
الفلسفي في الانساني بما يثيره ما احراجات فليس كل ما هو انساني يمكن ان يكون انسانيا ، وليس الانسان القديم هو الانسان الحديث ولا الانسان المعاصر
كل ارتقاء نحو الانساني ومغادرة للأرض التي الفها الانسان ارض العادة والتكرار والتعصب هو نوع من تحقيق الفلسفي في برنامج الفلسفة
وهناك العديد من المعاني الفلسفية الاخرى في العديد من القضايا المتعلقة بهذا المحور
ثانيا : فيم يكمن الفلسفي في مسالة القيم ؟
ويمكن الحديث ايضا عن الفلسفي ، بشكل عام ، في تردد القيم بين المطلق والنسبي في جميع المستويات الاقتصادية ( العمل) او السياسية او الاخلاقية او الفنية . فالقيم ليست الجاهزة بل "المفكر فيها" ، القيم التي يدركها الانا افكر ، القيم التي يشك فيها ويسال عنها وينقدها هذا الانا الذي يجب ان يتشكّل من خلال فعل تفكيري ذاتي. فالسؤال عن الاقتصادي والسياسي والاخلاقي والفني ليس من عاداتنا وتقاليدنا بل هو امر اصطناعي يتشكل عبر ممارسة منهجية ومعرفية وتقييمية طيلة سنة دراسية .
وهناك العديد من المعاني الفلسفية الاخرى في العديد من القضايا المتعلقة بهذا المحور
خلاصة : ان مدى تحقق الفلسفي من خلال هذين العنصرين من البرنامج : الانساني والقيم يرتبط اساسا بالتوزيعية الزمنية التي لا تسمح بالتدرب على التفكير والمشاركة والحوار . لكن السؤال الاخطر يتعلق بالعنصر الثالث من البرنامج وهو عنصر او محور العلم .
ثالثا : فيم يكمن الفلسفي في مسالة القيم ؟
الفلسفي في العلم . هنا نقطة استفهام كبرى حول مدى تحقق الفلسفي من خلال هذا المحور. ولا يمكن ان نصوغ نقطة الاستفهام حول هذا الاختيار لهذا المحور خاصة من جهة العنوان والنصوص دون ان نقدم الملاحظات التالية :
التلميذ لا يستسيغ هذا المحور . يعاني صعوبات كبرى في فهم اشكالياته ومعالجة نصوصه . وهو ما يؤدي غالبا الى اسقاطه من قائمة المحاور التي يراجعها استعدادا لامتحان البكالوريا . والصعوبة في تمثل هذا المحور تكبر اكثر عندما يتعلق الامر خاصة بتلميذ الآداب .
ان خطورة اهمال التلميذ لهذا المحور نتيجة الصعوبات الكامنة فيه ( العنوان والمعاني والإشكاليات والنصوص الخ...) تتمثل في اهمال بعد اساسي من الابعاد الاساسية في تكوين التلميذ والمواطن الصالح والانسان عامة . وبالتالي ، هناك نقطة استفهام كبرى حول المحور وصعوباته وما يؤدي اليه من اهمال للبعد العلمي في تكوين شخصية التلميذ .
فكيف يمكن ان يتحقق الفلسفي في هذا العنصر من عناصر هذا البرنامج بهذه المعاني المكثفة والاشكاليات التي تبدو منعدمة نسبيا خاصة في مستواه الاول ( ابعاد النمذجة) ؟ كيف يمكن ان يتحقق الفلسفي دون وعي علمي يشكّل رؤية التلميذ خاصة وان الخطاب الفلسفي تاريخيا تجدد ويتجدد بتجدد الخطاب العلمي ؟
ان العلم ضروي والحاجة اليه اكيدة وهو نظام رمزي اساسي في الوجود الانساني ، ولا يمكن للإنسان ان يكون انسانا دون احداث قطيعة في وعيه والانتقال من الحالة اللاهوتية والحالة الميتافيزيقية الى الحالة العلمية . فعملية الانتقال هي تحرير وتنوير للانسان ، هي انتقال به من مرتبة الانسحاق والتبعية والعبودية الى مرتبة الظهور والحضور والاستقلالية والحرية
بالإضافة الى الطابع الضروري للعلم هناك تحولات علمية جوهرية ساهمت في تشكيل الانسان عامة من العلم القديم الى العلم الحديث وصولا الى العلم المعاصر . وكلنا نعيش اليوم صراع العلم المعاصر مع فاشية الفيريس وفاشية الجهل القروسطي ، وهي راهنية تدعو الى اعادة تشكيل هذا المحور حتى يكون مساهما وفعالا في تكوين الرؤية العلمية للتلميذ والانسان عامة . وبالتالي ان النظر في فلسفية هذا المحور تبدو عبثية ودون جدوى اذا علمنا ان اغلبية التلاميذ لا تهتم بهذه المحور ليس نتيجة كره العلم بل نتيجة صعوبات كامنة في المحور ومعانيه ونصوصه . هذا لا يعني انه لا وجود لما هو فلسفي في هذا المحور بل ان مطلب مراجعة هذا المحور من اجل تكوين وعي حقيقي بالعلم عبر صياغة اشكاليات اكثر راهنية واكثر فاعلية يبدو اكثر الحاحا من البحث في فلسفية المحور
اذا كانت هناك صعوبة اساسية وذات اولولوية في برنامج الفلسفة الحالي فهي هذه الصعوبة المتعلقة بمحور العلم . والاخطر من ذلك ، خاصة اذا كان هناك امكانية الحديث عن صعوبات مصطنعة / مفتعلة/ممنهجة في اطار سياسة نشر التصحّر العلمي من اجل خلق تلميذ متناقض مع الروح العلمي : تلميذ بعيد كل البعد عن الفكر العلمي ، لا يدرك العلم وتاريخه وتحولاته وتأثيراته وخاصة اهميته في وجوده الفردي والحضاري ، نعم خاصة اهميته لان تكوين اغلب التلاميذ خاصة في عالمنا العربي يتميز بهيمنة الرؤية الميتافيزيقية و بالتحديد الدينية وهي رؤية مشوهة تقودها مؤسسات مسجدية ومؤسسات اخرى لاغراض الانتقام من كل محاولة تحريرية وتنويرية مهما كانت مضامينها فلسفية او علمية او سياسية الخ...
اكثر من ذلك ، عادة ما يذهب التلميذ والعديد من الاشخاص في مجتمعاتنا العربية الى ابراز حدود العلم بطريقة ميتافيزيقية ، والنظر في سلبياته ومخاطره قبل النظر في مطلب ضرورة العلم والحاجة الملحة اليه ، عادة ما يتسرع التلميذ في القدح ورفض العلم قبل ان يدرك اهمية الرؤية العلمية للاشياء ،وقبل ادراك حقيقة العلم وتاريخه الطويل وصراعاته مع رجال الدين وتضحياته من اجل تحطيم أوهام وارساء حقائق كُتبت بالدم ، وهو بذلك يواصل تقليد الاستهزاء بالعلم والعلماء نتيجة ثقافة قروسطية تقدس الماورئيات والجواهر السماوية.
ان البرنامج في هذا العنصر مسؤول عن انحباس الوعي الفلسفي بالفكر العلمي في تكوين شخصية التلميذ، ولا يمكن تجاوز هذا الانحباس دون الوعي بهذه الصعوبات الكامنة في البرنامج والعمل على تجاوزها في اطار رؤية حديثة تقطع مع الرؤية القروسطية للعلم والفلسفة وطبيعة العلاقة بينهما.
ان محدودية الفلسفي في المسالة العلمية نتيجة الصعوبات الكثيرة تجعل من الاستاذ يبني تلميذا ببعدين فقط : بعد الانساني والقيمي دون البعد العلمي وهو ما يتناقض مع رسالة الفلسفة المستمدة من رسالة المدرسة ، وهي رسالة تنمية الانساني في الانسان عبر تنمية اليد والوجدان والعقل . ومحور العلم يتنزل في اطار الوعي بالتنمية العلمية من خلال الانفتاح على انفتاح العقل العلمي ومراجعته المستمرة لنفسه وكل الثورات التي انجزها بحثا عن الحقيقي والملائم والناجع


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية