الموضوع : هل بإمكاننا أن نثق في إنّيتنا ؟                                                                                           المقدمة : يحتاج كل شخص في تجربته اليومية الي مقدار من " الثّقة في النّفس " إذ في إنعدامها لا يقدر على إنجاح أي مشروع من مشاريعه لقد ،تفطنت الفلسفة – وهي المنشغلة بالإنساني إلي أهمية مبحث الثّقة في الذّات من منطلق الذّات ذاتها حتى يصبح بإمكان الإنسان بناء إنيته أي تحقيق وجوده على النّحو الأكمل . غير أن هذا المطلب لا يبدو بديهيّا إذ لو كان كذلك ما كنّا لنتساءل : هل بإمكاننا أن نثق في إنيتنا وذلك لان هناك أكثر من مبرر لزعزعة تلك الثّقة . بين البحث عن الثّقة وانعدامها يتراءى التّوتر الإشكالي التّالي : إذا أردنا أن نحدد إنسانية الإنسان كإنية ، هل بإمكاننا ان نبني هذه الانية على أساس الثّقة أم أن هناك ما يبرر الشّك في وجودها وهل هناك أفق ممكن يسمح لنا بتخطي هذين الحدّين السلبيين ؟                                                                                                                              تنبع أهمية التفكير الفلسفي في هذا المشكل من كونه يتنزل في عمق راهننا الإنساني إذ من الضروري أن يدرك الإنسان من هو ؟ وهو إدراك يتيح لنا المضيّ في طريق انجاز مشروع وجودنا ... وهكذا وإيمانا منا بهذه الأهمية نحتاج إلي التعمق في تحديد دلالة المفاهيم الواردة في صيغة التساؤل.
يعني الإمكان المستمد من صيغة " هل " بإمكاننا   البحث في إمكانية وعي الإنسان بذاته وهو مطلب اقترن أساسا بالمشروع الفلسفي لعصر الحداثة ويقود بالضرورة إلي مرتبة اليقين و الثقة . الثقة هي إذا أن نرتقي بوعينا بذواتنا إلي مرحلة لا تقبل الشك فتكون الانية هي وجود اكتمل ، ووعينا به إلي حد اليقين و البداهة . ولكن ما الذي يسمح لنا بتأكيد هذا الإمكان الذي يتيح ذلك اليقين ؟
بإمكاننا أن نثق في انيتنا حيث أن الإنسان لا يكتفي بمشاركة الأشياء وجودها المباشر و الحسي ، كما أشار إلي ذلك هيغل إنما يتميز بكونه يجعل من وجوده موضوع تفكيره ، فالشيء يوجد ولا يعي بوجوده و الإنسان يوجد ويحول وجوده موضوعا لوعيه ، ذلك ما أدركه ديكارت حين بين أن هذا الوعي بالذات في ذاته ( conscience de soi en soi ) ينبغي أن يرتقي إلي مرتبة اليقين و الوضوح  والتميز و البداهة و ذلك بتوظيف منهج الشك ، إذ يبدأ الأنا بالشك في كل  شيء إلا انه لا يستطيع أن يشك في كونه يشك  ... الأنا يشك إذن يفكر إذن فهو موجود وهذا هو انبثاق الكوجيتو ، يقول ديكارت : "إن شكي في جميع الأشياء الأخرى يلزم عنه بضدّ ذلك لزوما بالغ البداهة واليقين ان أكون شيئا من الأشياء (...) ولكن أي شيء أنا إذن  أنا شيء يفكر " تلك هي اللحظة الأساسية التي تنبثق منها الانية حيث تتجلى ثقتنا فيها انطلاقا من وعي الأنا بذاته بما هو جوهر مفكر وقدرته على ملكية العالم وإصدار أحكام تجاه الآخر( تجربة قطعة الشمع / رؤية الأخرمن النافذة ) . وهكذا فمن منطق علاقة الأنا بذاته وبالعالم وبالآخرين نستطيع الإقرار بأنه يمكننا أن نثق في انيتنا .
إن مثل هذا التأسيس يمنح للذات صفة المركزية ولكنه يقود في آن إلي عزلتها والحال أن المقاربات المتشكلة راهنا و التي تعمقت في الكشف عن دلالة الإنساني في العالم وفي عالم الكثرة أثبتت أن لا إنية إلا في العالم وبين الآخرين وفي افق التّاريخ ، بحيث يجوز لنا مراجعة  تلك الثّقة في الانية و بمقتضى هذه المراجعة يصبح بإمكاننا أن نفقد إمكان الثّقة و اليقين في ذواتنا ... فكيف يحدث هذا الانتقال من الثّقة إلي الظنّة ؟
لقد كشفت المقاربات الفينومينولوجية بامتياز على أن الحضورالإنساني لا يحدث داخل حدود وعي الأنا بذاته و الثّقة في هذا الوعي ، بل لا ثقة في وجود إنساني إلا وهو " في وضعية لقاء مع و أمام  وضد " ... الإنسان هو كائن في العالم و لا يوجد داخل ذاته (...) يضعنا الجسد الخاص في افق تجربة وجود خاص  جدا ." كما أكد على ذلك ميرلوبنتي وهذا التّواجد هو وحده الذي يمنح للإنية مزيدا من الثّقة و لكن من وجهة نظر أخرى تبدو هذه الثّقة مدخلا لفقدان الثّقة لان التواجد في العالم و تحول الجوهرالي علاقة سوف يضع الأنا وجها لوجه مع الواقع والتّاريخ ويفرض عليها خوض الصّراع من اجل إدراك الثّقة ، لو كان بالإمكان إدراكها .
قد لا تكون الثّقة مُتاحة عندما تصطدم رغباتنا الجسدية بموانع الواقع ومحرماته (tabous ) حيث ينشأ اللاوعي متعارضا اشد التّعارض مع مركزية الوعي التقليدي وهو أمر دفع علم النفس التّحليلي مع فرويد إلي التصريح       " لقد اطرد الأنا من سيادته حتى على بيته " هل يمكن بعد ذلك ان نتحدث عن ثقة في الانية ؟ وحيث تنشأ سلطة التاريخ حين تبدو الانية ملقاة في لحظاته المتقلبة ويتأثر الوعي بأفكار زائفة أو واقع محكوم بالصراعات الطبقية    و تنافس " الأطراف " المالكة والمتحكمة اقتصاديا وسياسيا على " إعماء الواقع و مغالطته " لتأبيد واستمرار التّفاوت حينئذ يعلن ماركس " ان الوعي نتاج اجتماعي " هل من معنى عندئذ للحديث عن الثّقة في الانية ؟
وحيث يكشف الماضي الجسدي بغرائزه الدّفينة عن أحقيته المغتصبة في التّعبير عن الوجود الإنساني . فيحدث الانقلاب الجذري في مفهوم الانية اذ يصبح الجوهر المفكر " سطحا وقناعا و زيفا " في حين يكشف الجسد المنسي و المخفيّ عن حضور مسكوت عنه فيتحول الي حكمة أعمق من حكمة الوعي اذ " ان في جسدك من الحكمة ما يفوق خير حكمة فيك"على حد تعبير نيتشه فهل بعد هذا القلب النيتشوي الجذري نستطيع الحديث عن ثقة في الانية ؟   و حيث يشكل حضور الأخر بما هو غير ( autrui) أو بما هو" الأنا الذي ليس أنا " حسب عبارة سارتر، حضورا مهددا لوحدة الذات وحريتها ولنا في تجربة الخجل اكبر دليل على توتر العلاقة بين الانا والغير حيث قال سارتر :  " إمّا أنا اوالاخر ...علينا ان نختار " وحيث قال أيضا " الأخر هو الجحيم " فهل من حقنا بعد ذلك ان نستمر في ثقتنا في انيتنا ...؟
من المؤكد ان مثل هذه المقاربات التي تشكلت حول الإنساني ونقلت موضوعه من الوحدة إلى الكثرة  ومن الانسجام إلى التصدع ، تضعنا في عمق الحيرة والشك بديلا للثقة واليقين وتطرح علينا الأسئلة المربكة التالية : من نحن ؟ من أنا ؟ هل أنا وعي وإرادة ام لاوعي وتبعية ؟ هل اصنع التاريخ ام يصنعني ؟ هل يمثلني حاضري ام ماضيّ المنسي ؟ هل الغير صديق ام عدو ؟ حقّا نحن ننتقل بذلك من الثقة الى الارتياب ومن الوحدة الى التصدع و التشظّي غير أن الأمر لا يستدعي الانزعاج من هذا التحول اذ في الحقيقة تشكل هذه القضيّة مدخلا جديدا لبلورة مشروع ما بعد الحداثة وما بعدها حيث تقتنص الفلسفة المعاصرة هذه الأزمة لتعيد بناء إشكالية الإنساني بين الوحدة والكثرة في أفق إحداثيات أخرى يمكن استيعابها في أمرين : الاول هو ان مفهوم الانية يغادر الحلقة التي كان يسكنها ليصبح هوية متشكلة على الكثرة و يصبح  " الأنا آخر" و الإنية غيرية ... وفي هذا السياق أصبح متاحا لنا الحدّ من إعادة بناء الثقة في ذواتنا خارج الوحدة الفردية وبعيدا عن كل أشكال العزلة ، لقد تحدث ادغار موران على ضرورة ان تكون "الهوية مركّبة" وان تكون الوحدة في التنوع والاختلاف لا في الكثرة القابلة للقسمة ، وأكد بول ريكور على ضرورة ان تكون الهوية سردا قابلا للتأويل كالرواية فهي نحت لتاريخ فردي ولكنه كوني في نفس الوقت لانه قابل للفهم ولأنه يمثل جزءًا لازما من أجزاء الوحدة الإنسانية ... انه يعيش وضعية الكل دون تكرار ويصنع دائما المعنى المتجدد للحياة البشرية... وانتهى جون بول سارتر إلى إعلان التجربة الإنسانية مشروعا قابلا للتحقق انطلاقا من إدراك قيام الوجود على الحرية كقدر إنساني وقيام الماهية على المسؤولية في انجاز تلك الحرية لا في داخل الوعي إنّما في افق العلاقة البينذاتية أمام ومع  ولأجل الآخرين " فأن اختار لنفسي معناه ان اختار للإنسان" كما قال سارتر...المشروع نفسه اعتبره ماركس وكذلك هيغل من قبله كمشروع جدلي تاريخي : هيغليا حيث يرتحل الوعي باحثا عن المطلق الذي يتحقق في جدلية السيد والعبد وماركسيا حيث يرتحل الوعي وينتقل من مرحلة الاغتراب نحو مرحلة التحرر وبناء المجتمع الاشتراكي فتاريخ الإنسان يبدأ حين نلغي الصراع الطبقي وحين ينتصر مجتمع العدالة والحرية عندئذ تصبح الثقة في الإنية ممكنة ولكنها ليست ثقة فارغة فهي تقتضي في موضع ثاني يأتي إثر تأسيس الهوية – الغيرية الشروط الايتيقية لتحققها فنحن لا نبحث عن ثقة في الوجود بمعنى انطولوجي فحسب إنما عن ثقة في الآخر تجعلني متعاطفا معه محبّا له ، مراهنا على التواصل معه ... حينئذ يتحقق الرهان الكوني الذي يجعل الذات واثقة من نفسها انطلاقا من الثقة التي تكتسبها من غيرها"فليس المشكل أن أكون فقط ... بل أن أكون محبوبا "  كما قال جون لوك ماريون وكان بالإمكان أن يتم طرح التساؤل بطريقة مغايرة : هل بإمكاننا أن نجعل ثقتنا في الإنية مرتكزة على ثقتنا في غيرنا ؟
عموما تطلب الفلسفة اليوم ضرورة تجاوز الحدين السلبيين الذين يمكن للإنساني أن يتأسس في أفقهما : حدّ الثقة المفرطة  و حدّ الظنّة المفرطة فبينهما او انطلاقا منهما يعاد تأسيس الإنساني غير انه تأسيس مازال يحتاج إلى مراجعات كلما تطورت المقاربات الانثروبولوجية المفعمة  بالرمز والثقافة ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخصوصية والكونية

العلم بين الحقيقة والنمذجة

الانّية والغيرية